عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

حينما سمعت منه هذه الجملة وبدت عليّ مظاهر الدهشة راح يوضح لي أن ليس المقصود بالاعتزال هنا ذلك الجانب المذهبي المتعلق بفرقة المعتزلة، وإنما البعد عن الناس، فهو ـ البعد ـ في أي الأحوال غنيمة. نبعت دهشتي من أن صديقي حدثني فيما مضى عن انبهاره بالمذهب الاعتزالى وآراء المعتزلة، وأنه لولا الملامة لأعلن أنه معتزلي المذهب! . لن أنسى حينما راح يؤكد لي أبعاد الحال الذي وصل إليه أصحاب هذا المذهب حينما قال : إوعي تفتكر أن المذهب انحسر لضعفه أو عدم منطقيته أو غير ذلك من اسباب وإنما بفعل انحياز السلطة لأهل السنة، كان لسان حاله يقول إن الأمر حسمه السيف, وليس العقل الذي يعتبر المظهر الأساسي للمعتزلة. شعرت بالاستياء منه حينما تصورت أنه يريد أن يوحي لي بأن المظهر المضاد للمعتزلة لدى الخصم هو غياب العقل أو تغييبه!

ولأني أردت أن أتجنب الدخول في نقاش يتجاوز إطار حديثي معه .. حاولت جره إلى سياق آخر ولكني وجدته يقودني إلى ماهو أكثر جدلا، ورغم تحفظي فقد رأيت أن أفسح له المجال. ولم لا وأنا صديقه المقرب .. أو كما يصفني مرآته التي يرى فيها نفسه. في تبريره لسعيه للاعتزال راح صديقي يذكر لي أنه يتمنى لو بعد عن الناس وصنع لنفسه «معزلا» يعيش فيه مع نفسه.. فقد ضاق ذرعا بتلك الحالة من التنافر والشجار التي لم نشهدها من قبل والتي لم يعد معها من مجال سوى التراشق بالاتهامات.. كل حديث ينتهي بمشكلة وكل نقاش لا بد أن يكون مصحوبا بالصوت العالي.. حينما رحت استوضح منه.. بادرني قائلا : وهل تعجبك هذه الحالة؟ لقد كان الوطن في مختلف مراحل مسيرته على قلب رجل واحد, والآن أصبح على قلوب متعددة، كانت الوحدة هي الغالبة، فيما أصبحت الفرقة هي سيدة الموقف، كنا نرى أن العدو خارجي واضح أمامنا، وأصبحنا نراه داخليا، يكاد أن يكون راقدا في غرف نومنا. بكلمات كلها أسى قال: يا صديقي من المؤسف أننا نعيش معركة سلاحاها الرئيسيان لدى طرفيها التخوين لدى البعض والتكفير لدى الطرف الآخر!

بدا من كلماته وكأن الدنيا قد أطبقت عليه بهمومها، فحاولت أن أهون من شأن ما يحكيه وأوضح له أن الحياة أكبر من ذلك بكثير. كان يعيش حالة هي أقرب الى الاكتئاب.. راح يقول لي هل يمكن لي أن تخبرني إلى أين نسير؟ حينما طال سكوتي راح يقول لي : هل تعرف مبدأ التقية الذي يأخذ به الشيعة.. أحيانا أرى أنه الحل وأعمل به .. لم أعد قادرا على الإفصاح عن أفكاري في «وسط مجتمعي» لا يقبل سوى بما يتوافق مع رؤاه .. كان سؤاله التالي: وأنت رجل كثير النقاش والأخذ والعطاء هل تجد أن لديك القدرة على طرح أفكارك كما هي دون ان ينالك أذى من الآخرين؟ صدقني لم يعد هناك من هو لديه القدرة أو الاستعداد لتقبل رأي الآخر.. نعيب الديكتاتورية وكلنا ديكتاتوريون بامتياز.. ننادي بالقضاء على الاستبداد بالرأى ونحن أكثر المستبدين.. ندعو لأن تزهو الحرية في مجتمعنا ونحن أول من نمنع عنها نسائم الهواء حتى نكاد أن نخنقها!

شعرت أن حالته تزداد سوءا .. فكرت أن أهرب منه و أتركه مع هلاوسه، غير أن علاقتنا الوثيقة حتمت الاستمرار لإخراجه من يأسه وإحباطه. إلا أنه بادرني قائلا: خذ مثلا «30 يونية» ، فمع كل التقدير والاحترام لكل الرؤى التي يطرحها البعض بشأنها، فإنني أرفض محاولة البعض اختزال تاريخ مصر كله بطوله وعرضه في ذلك اليوم!. شعرت بأنه يصل لمرحلة هي أقرب إلى الحمي .. كاد أن يهذي..أو دخل هذه المرحلة بالفعل. في غمرة هذيانه راح يقول : خذ عندك رابعة .. إنها المعادل الموضوعي النقيض .. لقد أصبحت لدى البعض أقرب إلى  البقرة المقدسة .. ولو أن رابعة ذاتها عادت من قبرها لاستنكرت ما فعله الجميع بالميدان الذي حمل اسمها! رحت انبهه إلى أن اسم الميدان تغير.. فنهرني قائلا : وتلك كارثة أخرى!

حاولت التحليق به في آفاق أخرى خروجا من هذا الجو الكئيب، إلا أنني فوجئت به يقودني في طرق وعرة حين راح يؤصل دينيا لمسعاه الاعتزالى بقوله ألم يقل الله في محكم آياته : «وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ». حينما بدت عليّ علامات الاستنكار راح يقول لي : هل دعا ربي للتناحر؟ لا . هل دعا ربي للفرقة؟ لا . هل دعا ربي.. إلخ؟ أضاف : لهذه الأسباب كلها اعتزلكم غير آسف أو شاعر بتأنيب ضمير. 

رحت أنبهه بأن الاعتزال الذي ينشده لن يفيده وقد لا يتحقق. أكد لي أنه على الأقل سيريح دماغه التي تكاد أن تنفجر كمدا وغيظ.. على الأقل سيتمكن من تخفيف مستوى ضغطه الذي تجاوز المعدلات المسموح بها.. رحت أساله: ألهذا غيرت اتجاه كتاباتك في الفترة الأخيرة؟ نظر إلىّ بحسرة ولم يتكلم.. وصلتني إجابته، فعلمت أن الصمت ـ في كثير من الأحيان ـ أبلغ من أي كلام!