خارج السطر
اعتاد أهل السياسة تدوين تجاربهم. عرض مشاهداتهم، وتقديم شهاداتهم، وتقديم دروس الحياة لمن يلونهم. بعضهم يحاول تحسين صورته، والبعض الآخر يسعى لتصحيح خطأ أو رد اعتبار وربما تصفية حسابات.
لكن ما هو نادر فى بلادنا هو أن يكتب أحد رجال الأعمال مذكراته وخبراته ودروس حياته، ما فشل فيه وما نجح، وما يفتخر به وما يندم عليه. وربما يذكر عشاق التراجم والمذكرات تجارب محمد فرغلى، عثمان أحمد عثمان، لطفى منصور، وجيه أباظة، ومحمود العربى، وغيرهم.
وقبل أيام صدرت عن الدار المصرية اللبنانية مذكرات رؤوف غبور، رجل الأعمال الشهير، الذى أقام امبراطورية ضخمة متنوعة المجالات. وفى تصورى فإنها أشبه بوصية مغامر ذكى طموح يُدرك أن النجاح ليس ضربة حظ، وإنما هو نتاج فكر غير تقليدى، وتخطيط مدروس، وجرأة فى اتخاذ القرار.
فى أكتوبر 2021 أصيب رؤوف غبور بورم سرطانى فى البنكرياس، وسافر للعلاج، والتقى صديقه صلاح دياب الذى كان يقوم بعمل فحص طبى، وطلب منه أن يكتب مذكراته. ثم تكرر الأمر من ابنه كمال الذى رأى فيما عاشه والده دروسا وعبرا. ثم اتخذ القرار بعد أن تلقى من الأنبا أرميا ترنيمة «حد الزعف» وشعر بأن عليه أن يسترجع حياته وسلوكه وقراراته ويتحدث بصدق.
وهذا هو الملمح الأهم فى مذكرات الرجل، فهو يعترف بأنه كان ميالا طوال حياته إلى صناعة الثروة وأنه كان يعتبرها الهدف الأهم، وهو لا يجد حرجًا أن يتحدث عن تجربة التعثر والديون المتراكمة، وعن تجربة السجن، ومقاربة الإفلاس، وغيرها من التجارب المؤلمة.
تبدأ تجربة رؤوف غبور مبكرًا، فى سن السابعة من عمره، عندما كان يحصل على مصروف اسبوعى خمسة عشر قرشا، ووجد حلوانى كبيرا فى مصر الجديدة يبيع البسبوسة، وسأله عن سعر القطعة، فأجاب بأن الصينية بـستين قرشًا، وأنه لا يبيع إلا صينية أو نصف صينية، واعتبر رؤوف ذلك فشلا من البائع. ثم ذهب إلى خادمة الأسرة وطلب منها أن تقرضه خمسة عشر قرشا على أن يعيدها لها عشرين قرشا بعد يومين، ففعلت، فاشترى نصف صينية وجلس فى نادى هليوبوليس، وقام بتقطيع البسبوسة قطعًا صغيرة، وباع كل قطعة للأطفال وحصل على ضعف ما دفعه، فسدد مديونية الخادمة ثم واصل نشاطه واشترى عشرات الصوانى، وحقق أرباحا كبيرة.
وكبر قليلا، فتعلم تجارة الأجهزة الكهربائية، ثم عمل فى تجارة العملة بعد أن سأله زميل له فى المدرسة الثانوية عن سعر الدولار لأن والده معه مئة ألف دولار يريد تغييرها. قال رءوف «سألت والدى عن سعر الدولار فقال لى 65 قرشا، فأخبرت الزميل بأننى استطيع تغييره على 64 قرشا، وربحت القرش».
ورغم تحفيز العائلة لرءوف للعمل فى مجال الطب إلا أنه أحب التجارة والبزنس، وفزع من مشهد الدم والمستشفيات عندما تطوع مع زملاء له وقت حرب أكتوبر 1973 لمساعدة مصابى الحرب. وهكذا تخرج في كلية الطب تخصص القلب، لكن عقله وقلبه كانا مرتبطين تماما بالبزنس وتحقيق النجاح فيه.
وتبدو حكاية استقلاله عن العائلة ورفضه الاستمرار فى العمل براتب ألف جنيه شهريا فى السبعينيات درسا لإيمان الإنسان بذاته وقدراته، وبإمكانية التغيير والتحول من مكان لمكان ومن مهنة لأخرى.
لكن واحدة من المحطات المهمة فى حياة «غبور» تمثلت فى تجربة السجن، إذ كان على علاقة عمل بنائب رئيس هيئة المشروعات وكان يقوم بتزويد السنترلات الحكومية بالأجهزة من خلال مناقصات عامة، وفى سنة 1990 قام بشراء مزرعة من نائب رئيس الهيئة، وكان الرجل مراقبا بسبب وشاية حاسد، واتهم «غبور» بدفع رشوة للرجل، وعرضوا عليه أن يعترف بأن المبلغ المقدم كان رشوة، وسيتم إخراجه، لكنه أبى الوشاية بالرجل وظل فى السجن ستة شهور حتى حصل على البراءة.
وفى السجن احتك بتجربة مريرة خرج منها مفلسا ومدينا للبنوك بأكثر من مليار جنيه، ثم واصل العمل خطوة خطوة حتى نجح فى سداد ما عليه خلال خمس سنوات، وصار صاحب إمبراطورية ضخمة تعمل فى كل المجالات وتوظف آلاف الناس.
يقول فى وصيته «إن علينا إعطاء الأولوية لملفات التعليم والثقافة والصحة والاستثمار وجذب الكفاءات المتميزة فى الداخل والخارج».
والله أعلم.