رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

حكاية وطن

 

 

 

الرغبة فى حجز مكان فى الصف الأول بالفصل الدراسى المعروف بـ«التختة الأولى» عشناها فى فترة الستينيات من هذا القرن، عندما كنت تلميذًا بمدرسة العرب والنجاجرة الابتدائية التابعة لإدارة الوقف التعليمية بقنا، كان هناك فناء صغير للمدرسة يستخدم لطابور الصباح وتحية العلم، طبعًا كنا نقول تحيا الجمهورية العربية المتحدة أيام الوحدة مع سوريا، وكان النشيد الوطنى يبدأ بالله أكبر فوق كيد المعتدى، لأننا كنا قد تعرضنا لهزيمة قاسية من إسرائيل عام 67. وعندما لاحظ أحد المدرسين المشرفين على طابور الصباح الذى كانت تلقى فيه كلمة المدرسين وكلمة التلاميذ وحكمة الصباح أن طوابير التلاميذ فى حاجة إلى انضباط وضبط المحاذاة، فقرر أن يقف التلاميذ طوال القامة فى الأمام ويقف قصار القامة فى الصفوف الخلفية، وكان مكانى فى الصف الأخير، وكنت إلتزم به وأعرف من يقف عن يمينى وعن يسارى، ولكن فى أول يوم دراسة كان الوضع مختلفًا، بعضنا يختبئ فى الفصول تحت الأدراج حتى لا يراه المدرسون ويتمكن من التزويغ من الطابور، أو من يلبس حذاء خفيفا فى هذا اليوم يساعده فى الجرى علي الفصل دون مراعاة لإيقاع الطبلة التى تجعلنا ندب أرجلنا فى الأرض ونمرجح أيدينا للأمام والخلف ونحن ذاهبون إلي الفصول. أول يوم مدرسة كان يجعلنا نتحول إلى عفاريت، وشياطين، يسقط بعضنا علي الأرض، والبعض يتعرض لإصابات، والقوى يدوس علي الضعيف، والطويل يهدد القصير والسبب الرغبة فى الجلوس بالصف الأول، ويا هناه من يلحق بالتختة الأولى الموازية لباب الفصل.

كانت تصرفات أطفال لم يشارك فيها أولياء الأمور الذين لم يكونوا يرافقوننا إلي المدرسة فى الصباح، وينتظروننا حتى ينتهى اليوم الدراسى سواء من الأم أو الأب أو الأخ الأكبر كما نرى اليوم، ولعلاج الصراع علي التختة الأولى عندما تسبب فى خصام بين التلاميذ وصل إلي الأسر الذين لم يحقق أبناؤهم رغبتهم فى حيازة التختة الأولى، تفتق ذهن إدارة المدرسة إلي اقتراح وهو جلوس التلاميذ قصيرى القامة فى الصفوف الأمامية، وجلوس طوال القامة فى الصفوف الخلفية، وألزمت إدارة المدرسة رائد كل فصل بتنفيذ الاقتراح الذى تحول إلى قرار إدارى، فالتزم الجميع به وكان رائد كل فصل يصطحب تلاميذ فصله ويوزعهم علي الأماكن طبقًا لنظرية القصير والطويل، التي أنقذتنى من الوقوف فى آخر الطابور لأننى من قصار القامة إلى الجلوس فى التختة الأولى لأننى من قصار القامة أيضًا.

تجربة التختة الأولى لم تعجبنى، اكتشفت أن الذى يمسح السبورة ليس البليد الذى يقال عليه حيلة البليد مسح السبورة، ولكن الذى يمسح السبورة، ويحضر الطباشير، ويتمم علي وجود البشاورة التي استخدمها فى محو الكتابة من علي السبورة، وأحيانا يذهب إلى دكان الحاج ذكى لإحضار سجائر للمدرس، أو يدفع له ثمن طبق الفول النابت أو يتحمل غلاسة المدرس الفاضى الذى يجلس على طرف التختة ليتسامر مع زميله الذى يقوم بالشرح.. يوم ورا يوم زادت سلبيات التختة الأولى فى نظرى رغم أننى لم أكن بليدًا حتى أمسح السبورة، فقد كنت من شطار الفصل وحصلت علي أول جائزة تخصصها الإدارة التعليمية ولا أريد الاعلان لأن ثمنها كان فى هذا الوقت «ستين فضة» أى قرش وتعريفة وهذه العملة تعتبر مثل العنقاء والخل الوفى بالنسبة للجيل الحالى، ولكن كانت قيمة الجائزة فى معناها.

فى صباح أحد الأيام حملت حقيبتى وتوجهت إلى آخر تختة فى الفصل للجلوس إلى جوار طوال القامة لأبعد عن الأعمال اليومية التى كنت أقوم بها بصفتى مقيما فى التختة الأولى، واكتشفت أن الصف الأخير يتيح الفرصة لمتابعة شرح المدرس ويساعد علي التركيز ووضوح الرؤية وراحة العين وأحيانا نقوم ببعض المزاح من وراء ظهر المدرس، واخترت مكانًا بجوار كمال أبوالمجد الذى وصل حاليًا إلي منصب رئيس مدينة بعد فترة كبيرة قضاها فى المحاماة، وعلي عزام الذى أصبح ضابط شرطة له دور كبير فى استتباب الأمن فى قنا، مما ينفى عن الذين يجلسون فى الصفوف الأخيرة صفة البلطجة أو عدم التركيز أو عدم اهتمام المدرسين بهم ومن موقعى فى الصف الخلفى أصبحت أول عضو شرطة مدرسية بعد تطبيق هذا النشاط الانضباطى فى المدارس بقرار وزارى وقلدنى الشارة موجه القسم الأستاذ أبوالقاسم الذى كان يقوم بدور القائد الذي تشعر به القرية بالكامل عندما كان يزور مدرستنا، كان يمتحننا فى كل شىء، لم يكن مفتشاً على تحصيل العلم ولكن كان يهتم بالنظافة وتقليم الأظافر وتهذيب الشعر، وتنسيق الملابس، كان يفتش علي المدرسين ويطلع على دفتر التحضير، كان وجوده يحول المدرسة إلى معسكر غاية فى الانضباط  حتى يغادر المدرسة ويستمر أثره عدة أيام.

كانت علاقة أولياء الأمور بالمدرسة تقتصر علي إلقاء السلام من الخارج، أو الاستئذان فى الدخول لسداد المصروفات المدرسية أو الحصول على خطاب توصية للطبيب للكشف على تلميذ مريض، أو استدعاء ولى أمر تلميذ عن طريق الناظر لإبلاغه أمرا يهم ابنه، فقد كان غير مسموح لأولياء الأمور بدخول الفصول، والتدخل فى عملية جلوس أبنائهم، أو التطاول علي المدرسين، أو إبداء رغبات تخالف القواعد المطبقة فى المدرسة، كان أولياء الأمور يلتقون مع ناظر المدرسة أو المدرس المسئول فى حجرة جانبية خاصة بالاخصائى الاجتماعى أو مسئول النشاط أو مسئول التواصل مع أولياء الأمور.

رغم صغر سننا فى المرحلة الابتدائية إلا أننا كنا نشعر بآلام هزيمة 67 التي كانت تبدو فى كل شىء حولنا وفى أول أيام انتقالنا إلى المرحلة الاعدادية حققت قواتنا المسلحة نصر اكتوبر المجيد، وتغير النشيد الوطنى إلي بلادى بلادى لكى حبى وفؤادى.. بلادى حاليًا تزهو بحلة النصر فى الذكرى 48 لنصر اكتوبر، واعتقد لا يليق بها تصرفات بعض أبناء جيلى الذين أصبحوا حاليًا آباء وبعضهم له أحفاد الذين اقتحموا المدارس، وعرضوا أبناءهم التلاميذ للخطر من أجل حجز التختة الأولى فى الفصول، إن المظهر غير الحضارى الذى بدا عليه بعض أولياء الأمور وهم يقذفون أبناءهم من الشبابيك ومن علي مواسير المياه لدخول الفصول لا يليق بالعملية التعليمية ولا بالأوضاع التي تمر بها البلاد فى ظل جائحة كورونا التي يتم مواجهتها حرصا على استمرار العام الدراسى. هناك سلوكيات يجب أن تتغير لأن العشوائية أصبحت لا تليق بمصر ولا بالجمهورية الجديدة.