رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عطر الأحباب

 

 

لا أحد يختلف حول موهبته الفطرية، والإجماع ساحق بلا نشاز على أن ظهوره كفيل بصناعة أجواء مدهشة من المرح والبهجة والتهيؤ لطوفان من الضحكات الصافية. عبد الفتاح القصري «1905-1964»، القصير البدين الأحول، لامع الشعر غرائبي الثياب، ذو الصوت المختلف والإيقاع الحركي الفريد، كأنه يغادر لتوه مرحلة الحبو ويتعلم المشي حذرا.

 ليس من الإنصاف في شيء أن يُقارن بنجيب الريحاني وإسماعيل ياسين، فخلال ربع قرن من العمل المتصل في السينما لم يحظ القصري ببطولة مطلقة، قانعا بتصدر قائمة الأبطال المساعدين، أولئك الأعمدة الذين لا يمكن الاستغناء عنهم، لكن الملصقات الدعائية تتضمن أسماءهم مكتوبة ببنط أصغر من نجوم الشباك، ولا يتيح لهم السيناريو إلا وجودا محدودا مقيدا يرتقي بالحضور الأخاذ؛ منحة الله التي لا تفسير لها إلا أنها منحة من الله.

يفرض عبد الفتاح حضوره على العمالقة الذين يواجههم في ندية، بل إنه يتفوق عليهم في بعض المشاهد المشتركة. إبراهيم نفخو في «لعبة الست»، وعبد المجيد ساطور في «سي عمر»، شخصيتان يجسدهما الممثل عظيم الموهبة مع الريحاني، وتنتهي المبارة بينهما بالتعادل الإيجابي، فلا أحد منهما يحتكر الإضحاك أو يستعمر وحده قلوب المشاهدين، وكلاهما يسجل أهدافا تزغرد لها القلوب من فرط النشوة، أما الحاج جمعة البقال في «معلهش يا زهر»، فإنه لا يقع فريسة في شباك العملاق زكي رستم. لكل منهما أدواته التي يسيطر بها على المشاعر، والفيلم يتسع للألوان كافة مثل الحياة.

في «الأستاذة فاطمة»، يقدم القصري دورًا لا يُنسى في تاريخه الفني الحافل. الممثل الفذ الذي يتلقى تعليمه في مدارس الفرير الفرنسية، وينتمي إلى عائلة عريقة، يجسد ببراعة مذهلة شخصية التاجر عبد العزيز الشرقاوي، المتطرف في جهله وتعالمه. ما أروعه عندما يتحدث بالفصحى كما يتخيلها: كيفما تمنع العمال من بناية الحيطة!، أما عن مرافعته أمام القاضي فتفجر زلزال من الضحك مرده إلى البلاغة العبثية: قتل الحرية الشخصية والحرية العمومية!، وصولا إلى المطالبة بإحالة الجار عبد الوارث عسر إلى فضيلة المفتي!.

الحوار المكتوب مهم بطبيعة الحال، لكن أسلوب الأداء وملامح الوجه ونبرات الصوت، هي العناصر التي لا تقل أهمية في صناعة الضحك. لو أن ممثلا غيره يقرأ حروف كلمة «ثعبان» ويصرخ بعدها في سذاجة وثقة :«

حنش»، ما استطاع أن يترك مثل هذا الأثر الذي يبدو مع كل مشاهدة كأنه جديد بكر طازج يُرى للمرة الأولى.

الذين ولدوا بعد عقود من رحيله، يعشقون شخصية المعلم حنفي شيخ الصيادين في «ابن حميدو»، وما يردده القصري في الفيلم عن «نورماندي» وكلمته التي لا تنزل الأرض أبدا، يتحول إلى جزء من نسيج اللغة اليومية التي يتم استدعاؤها في مواقف شتى، سياسية واجتماعية وشخصية.

في عاميه الأخيرين، يواجه مضحك الملايين محنة مأسوية ذات وقائع وتفاصيل مرعبة. يفقد بصره، وتتخلى عنه الزوجة الشابة وتقترن بعد الطلاق الذي يُفرض عليه قهرا بشاب ممن كان يحسن إليهم. ينتهي به المطاف شبه سجين في شقة أرضية خانقة، وتتوالى المصائب فيفقد الذاكرة ويختل عقله بفعل الضربات الموجعة التي تنهال عليه من حيث لا يدري ولا يتوقع.

الجنازة هزيلة لا يسير فيها إلا حفنة من الفقراء، ويُسدل بعدها الستار على حياة حافلة بالغرائب والتحولات العاصفة. لو أن كاتبا يعد نصا كهذا للسينما أو المسرح، سيُقال بالضرورة إنه جاهل بالمبادىء الأولية لفن الكتابة الدرامية وأصول المعالجة المقنعة، لكن الحياة لا تخضع في سريانها العظيم المحير للشائع الموروث من القواعد متقنة البناء.