رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عطر الأحباب

 

 

ما الذى تعنيه كلمة «مصري»؟. قد يبدو السؤال غريبا أو ساذجا للوهلة الأولى، لكن طرحه يبدو ضروريا عند التفكير فى العشرات من أعلام وعلامات الثقافة المصرية الحديثة. جذورهم القريبة ليست مصرية، فهم وافدون من بلدان أخرى، لكنهم فى طليعة الأعمق والأصدق والأروع تعبيرا عن جوهر الشخصية الوطنية والانتماء الأصيل إلى تراب الوطن. منهم، على سبيل المثال لا الحصر: محمود سامى البارودي، أحمد شوقي، قاسم أمين، نجيب الريحاني، يحيى حقي، فؤاد حداد، صلاح جاهين، ومعهم بطبيعة الحال محمود بيرم «التونسي».

عدد من هؤلاء الأفذاذ لا تجرى فى عروقهم نقطة دم مصرية واحدة، كما يقول أمير الشعراء أحمد شوقى عن نفسه، لكنهم يذوبون فى الوطن الجديد بلا عناء. بعضهم تبدأ علاقته مع مصر بهجرة جده أو أبيه، وإذا بهم لا يعرفون غيرها وطنا، بل إنهم يسرفون فى الاعتزاز بهويتهم إلى درجة لا تخلو من التطرف، كأن جدودهم من المشاركين فى بناء الإمبراطورية المصرية القديمة.

فى كتابى بيرم «1893-1961» الرائدين :»السيد ومراته فى مصر»، «السيد ومراته فى باريس»؛ دليل عملى ساطع على عمق يتجاوز مكانة الشاعر عبقرى الموهبة إلى مقعد المفكر شمولى النظرة، صاحب الرؤية الثاقبة وليدة تراكم الخبرات والتجارب.

يتعرض بيرم للنفى بعد قصيدته الهجائية ذائعة الصيت «البامية الملوكى والقرع السلطاني»، حيث الهجوم العنيف على السلطان فؤاد، قبل أن يُتوج ملكا، وتمتد سنوات المنفى طويلا حتى يعود إلى مصر بعد صعود الملك فاروق إلى عرش أبيه.

من ناحية أخرى، يبقى النقد الاجتماعى فى شعر بيرم جديرا بالبقاء والخلود، ففيه يقدم شهادة تتكىء على بناء فنى متماسك ولغة طازجة وصور مبتكرة، تجمع بين الرؤية الواعية وخفة الظل والمرارة الموجعة. رصد فكرى فنى بارع أصيل للفارق الحضارى الشاسع بين الشرق والغرب فى رائعته «حاتجن يا ريت يا اخوانا ما رحتش لندن ولا باريز»، وصرخة متهكمة ساخرة تدين معطيات الساحة الغنائية فى «يا أهل المغنى دماغنا وجعنا.. دقيقة سكوت لله». حملاته الشعرية ضد السلوكيات المنحرفة فى مجالات مختلفة، تشكل فى مجموعها لوحة بالغة الإتقان والدقة عن طبيعة الحياة الاجتماعية المصرية فى النصف الأول من القرن العشرين. يسرف فى القسوة؟. ربما يفعل، لكنها قسوة المحب.

قد يأخذ عليه خصومه وكارهوه أغنية مثل «ما أحلاها عيشة الفلاح»، وقد ينتقدون قصائد له فى مدح الملك فاروق، لكن هؤلاء الناقمين يتوقفون أمام زاوية صغيرة ضئيلة المساحة فى لوحة جدارية عملاقة، ويتجاهلون أن الأغنية وليدة سياق درامى فى فيلم سينمائي، أما مدح الملك فلا يعد جريمة نكراء، فما أكثر مادحى فاروق ومحبيه.

يعيش بيرم سنوات المنفى الباريسى مسكونا بالوجع لفراق الوطن و»الملاية اللف»، ومن الذى لا يهتز من الأعماق عندما يقرأ مطلع قصيدته الشجنية الفريدة:

«غلبت أقطع تذاكر وشبعت يا رب غربة بين الشطوط والبواخر وبين بلادنا وأوروبا»

يعود بيرم ليستقر ويبدع ويتوهج، وتتغنى أم كلثوم بمجموعة من روائعه ذات الخصائص المختلفة فى رحلة ثومة مع الغناء: «الأولة فى الغرام»، «الأمل»، أنا فى انتظارك»، «أهل الهوى»، «شمس الأصيل»، «القلب يعشق كل جميل»، «هو صحيح الهوا غلاب»، «الحب كده»، «يا صباح الخير»، «الورد جميل»، «حبيبى يسعد أوقاته».

الحديث عن «ضيوف» مصر من الأشقاء العرب المقيمين فيها لا يخلو من الخلل، ذلك أن كلمة «الضيوف» ليست دقيقة أو صحيحة، فكيف لصاحب البيت أن يكون ضيفًا؟، وهل من فارق بين المصرى والتونسى فى أحضان النيل العظيم المعطاء لكل من يشرب ماءه المقدس؟.