عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عطر الأحباب

 

 

حالة خاصة فى تاريخ الثقافة المصرية، فهو شاعر ورسام كاريكاتورى وصحفى وكاتب سيناريو وممثل وفيلسوف شعبى خفيف الظل بقدر عمقه وعظيم حكمته، موهوب فى اقتحام القلوب ومصادقة الأرواح والتعبير الخلاب عن أحلام الإنسان المصرى وأوجاعه. يصعد إلى ذروة التوهج والعطاء مع ازدهار الحلم الناصرى، ويهبط مسكونا بالألم والحسرة بعد أن يتحول الأمر إلى كابوس، لكنه فى محطات حياته جميعا يتسلح بالصدق والبراءة معا.

صلاح جاهين «1930-1986» لا يسير على خطى أحد من سابقيه، وهيهات هيهات أن يماثله واحد من أبناء الأجيال التالية، ذلك أنه متفرد صاحب بصمة خاصة، وليس مثل رباعياته فى تجسيد مكونات الشخصية المصرية بأبعادها المركبة المعقدة. لا غرابة أن يكون على الرغم من أصوله التركية القريبة مصريا قحا فى ملامحه الشكلية ومفردات لغته ومرتكزات رؤيته، فهكذا بيرم التونسى وفؤاد حداد، أو هكذا مصر ذات السحر والسر الغامض فى تذويب الوافدين وتحويلهم إلى جزء من طمى نيلها العظيم.

إبداع صلاح الثرى الغزير علامة فارقة لا يمكن إنكار خطير تأثيرها، وعتاة المختلفين معه فكريا وسياسيا لا يملكون إلا الإقرار بأنه مرجع لا غنى عنه للأجيال التالية، يعرفون من خلاله كيف كان الأجداد فى انتصاراتهم وهزائمهم وتحولاتهم المدوية فى الربع الثالث من القرن العشرين. فى أغانيه الوطنية والعاطفية، وفى قصائده ورسومه وأفلامه ومسرحياته وأعماله التليفزيونية، يقدم صلاح شهادة بالغة الأهمية والعمق عن مرحلة يتطلع فيها المصريون إلى ملامسة السحاب محلقين فى سموات الأحلام الوردية، ثم يسقطون من حالق بعد هزيمة يونيه 1967، فإذا بهم فى هاوية اليأس والإحباط والألم الذى يفوق طاقة البشر على الاحتمال.

ليس صحيحا أن صلاح جاهين قد خدع محبيه وغرر بهم، والأقرب إلى الدقة هو تعرضه للخداع. كان مخلصا فى إيمانه بالزعيم، وصادقا فى السير وراء الأحلام التى يبعثرها بلا حساب، ولم يكن إيمانه هذا نفعيا أو انتهازيا، فما أكثر المثاليين الطيبين الذين آمنوا وشاركوا فى الغناء، ثم تلقوا اللطمة المفزعة التى قذفت بهم إلى بئر سحيق حافل بأمراض الجسد والروح معا.

فى «عودة الابن الضال»، تغنى ماجدة الرومى من كلمات جاهين:

«ساعات أقوم الصبح.. قلبى حزين

أطل بره الباب.. ياخدنى الحنين

اللى لقيته ضاع

واللى اشتريته انباع

واللى قابلته راح.. وفات الأنين»

إنه الألم النبيل والشجن الذى يفجر النشوة الغامضة فى أعماق المستمعين؛ نشوة استمرار الحياة وانتصارها. كيف يكون حب الوطن؟. سؤال بالغ الصعوبة على الرغم من السهولة الظاهرية، وفى رائعته «على اسم مصر» يتصدى جاهين للإجابة المشبعة:

«على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء

أنا مصر عندى أحب وأجمل الأشياء

باحبها وهى مالكة الأرض شرق وغرب

وأحبها وهى مرمية جريحة حرب

باحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء

وأكرهها وألعن أبوها بعشق زى الداء

وأسيبها وأطفش فى درب وتبقى هى فى درب

وتلتفت تلاقينى جنبها فى الكرب»

الخلود للوطن وحده، والأنظمة جميعا إلى زوال. الحب لا يتعارض مع الضيق والاستياء، والقليل من الغضب يشعل نيران العشق، لكن الإنسان الفرد فى نهاية الأمر كائن هش ضعيف، وكتلة من الأعصاب القابلة للاشتعال والتلف. طاقة صلاح على التعايش محدودة، وفقدان الشهية للحياة هى العلة التى اغتالت الشاعر الفذ، الطفل البدين الجميل مفرط الحساسية كثير الهواجس موجوع الضمير. لا بد أنه كان يعاتب نفسه كثيرا ويتحامل عليها، ولا شك أيضا أن صدمة الهزيمة وانهيارالأحلام لم تفارقه يوما، وهى هزيمة تمتزج فيها العناصر الذاتية بالعوامل الموضوعية، وما أفدح هذا النمط من الهزائم.