رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عطر الأحباب

 

 

لا حدود لصدقه وحضوره المتوهج فى المشاهد القليلة التى يظهر فيها مع العملاق زكى رستم فى «معلش يا زهر»، ولا شك أنه يستحق عشرات الجوائز عن دوره فى «بداية ونهاية». ابن البقال وصبيه التابع الخانع، لا شيء يفوق اشتهاءه لسناء جميل إلا نذالته وخسته، أما تعبيرات الوجه عند ظهور الفتوة فريد شوقى فى الدكان ليطلب إحياء الفرح، ثم ضحكته الهستيرية جراء شعوره بالنجاة من بطش شقيق ضحيته، فهى التجسيد العملى لعبقرية تمثيلية يعز وجودها.

 فى فيلمى «لن أعترف» و«الشيطان الصغير»، يتألق صلاح منصور «1923-1979» فى تجسيد شخصية المجرم الشرير الغليظ الذى يخلو قلبه من الرحمة، ووحده القادر على تقديم دور الأحدب بمثل هذا الإتقان فى «مع الذكريات»، ولا يقل إبداعه الأخاذ فى «المستحيل» و«العصفور»، أما العمدة عتمان فى «الزوجة الثانية» فهو أشهر أدواره وصانع شعبيته. إنه العمدة الطاغية الذى يحترق بنيران الطمع والشهوة، ويدمن الاستغلال واللصوصية، ويسقط فى براثن المرض فيتقن التعبير عن الضعف والانكسار إتقانه فى التعبير عن الجبروت والقسوة.

ينفرد صلاح بالبطولة فى أفلام قليلة، لكنه يفرض بطولته على الأبطال دائما، ومن ذلك ما نجده فى «قنديل أم هاشم» و«شيء فى صدري» و«القضية 68». كأنه خُلق ليكون خادم مقام أم العواجز، وسكرتير الباشا الذى يعرف حقيقة وطبيعة وظيفته، والمثقف ابن القاضى الذى يصطدم مع واقع يفتقد العدالة التى ينشأ على تقديسها واحترام قواعدها.

 التاجر الصعيدى المخلص لتقاليد بيته، المحافظ المتعنت بقدر ما هو منفلت مستهتر، والد جميلة فى «البوسطجي»، دور استثنائى فى مسيرته الحافلة. يعانق أعماق الشخصية كما يكتبها يحيى حقى فى القصة، ويتسلح فى الأداء الرفيع بكل خبرته وثقافته وموهبته، مبتعدًا عن السطح الهش الذى يلوذ به الكثيرون من أشباه الممثلين. مشهد النهاية، وهو يحمل الابنة القربان جثة هامدة بين يديه، ممزقًا بين الواجب الذى يفرض القتل، والحب الذى يتوارى خضوعًا لسطوة الموروث الاجتماعي، جدير بأن يتعلم منه التافهون الذين يتوهمون أن التمثيل خليط من الوسامة والأناقة والفهلوة. ما أروع نظرات عينيه بعد أن يوجه الطعنة القاتلة إلى قلب الابنة، وما أروع وجهه وإيقاع حركته وهو ينظر إلى جثتها بين يديه. الدموع المخنوقة تمزق الروح، وتهدل شاربيه يغنيه عن البوح بالكثير الكثير الذى يعتمل فى أعماقه.

ينشأ صلاح فى أحضان المسرح ويخلص له طيلة عمره، وهو من القلائل الذين يفلتون من اللعنة التى تصاحب القادمين إلى عالم السينما من خشبة المسرح، حيث المبالغة والإسراف فى الإيماءات والتلويح بالأيدي، فضلا عن النبرة الصوتية الزاعقة. لا شيء من هذا كله عند صلاح، فهو يتقن لغة السينما إتقانه للغتين الإذاعية والمسرحية، وفى ساحات التمثيل جميعًا كان متمكنًا مقنعًا صادقًا.

المشهد الأخير فى حياة الفنان القدير، بعيدًا عن ساحة احتراف التمثيل، جدير بالكثير من التأمل. ينتظر الموت فى المستشفى، لكنه يتحامل على نفسه ويغادر الفراش ليؤدى فى الغرفة الصغيرة جزءًا من دور «هاملت»، الشخصية التى يبدأ معها صلاح حياته المسرحية عندما كان طالبًا صغيرًا. يعود ليستلقى على سريره، سعيدًا بالدرس البليغ الذى يلقنه للموت والخائفين منه.

 أى مشهد كان يؤديه من مسرحية شكسبير؟. ربما هو حفار القبور الذى يغنى لاهيًا دون شعور بالرهبة أمام الموت، أو هاملت الذى يتساءل:

«أليس لهذا الرجل إحساس بعمله فيغنى وهو يحفر القبر؟»

إنها العادة كما يقول هوراشيو، أداته للنجاة من المشاعر المؤلمة، فهو يقوم بعمله دون أن تسكنه المشاعر التى تلازم غيره :«صحيح ما تقول، ففى اليد التى تعمل قليلا، حس رقيق أكثر».

ما أروع صلاح منصور.