رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

من كان يظن أن التأملات على صخرة صالحة للأكل يمكن أن تصل إلى 450 صفحة لاهثة؟؛ هذا مافعله كتاب (الملح: تاريخ العالم) للكاتب مارك كورلانسكى منذ صدوره وحتى الآن؛ حيث يقود فيه المؤلف القارئ فى رحلة مدتها 5000 عام حول الملح عبر الصين والهند ومصر واليابان والمغرب وإسرائيل وأفريقيا وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا والنمسا وإنجلترا والدول الاسكندنافية وفرنسا والولايات المتحدة.

يوجه مارك كورلانسكى انتباهنا إلى هذا العنصر المنزلى المشترك، وتاريخه الطويل والمثير للاهتمام؛ فتلك الصخرة الوحيدة التى نأكلها، والتى يطلق عليها الملح؛ شكلت الحضارة منذ البداية، وقصتها هى جزء متلألئ ومفاجئ فى كثير من الأحيان من تاريخ البشرية. والعجيب أن الملح ظل مادة قيّمة للغاية حيث تم تداوله كعملة، وأثر فى إنشاء طرق التجارة والمدن، وأشعل الحروب بين الدول، وأمّن الإمبراطوريات، وألهم الثورات. أنه عالم مليئ بسلسلة لا تنتهى من التفاصيل الرائعة، فالملح هو التحفة الطبيعية المسلية للغاية ؛والمتعددة الطبقات.

ثمة طرق متنوعة أثر فيها هذا المركب الكيميائى المتواضع تأثيراً عميقاً على حياة الناس. يظهر الملح مرارًا وتكرارًا كلاعب محورى فى دراما التاريخ البشري؛ حيث يحدد ويهيكل العلاقات بين من يملكون الأملاح والفقراء، وأحيانًا حتى يشكل جغرافية الأمم بأكملها. فالترتيب غير العادى للطرق المرئى على أى خريطة مفصلة لأمريكا الشمالية؛ هو إلى حد كبير نتيجة الرغبة فى الملح. فالطرق فى الأصل مسارات أنشأتها الحيوانات، وهى تتبع أسهل طريق من وإلى لعق الملح؛ فتكون الثقوب العميقة التى تم حفرها على مدى آلاف السنين بواسطة الملايين من الألسنة الشغوفة، فى نهاية المطاف أصبحت طرقاً، ليتم بناء القرى عند اللعقات، وشيئا فشىء أتسعت المسارات التى تربطها، وتغطيها، إلى أن تصل إلى أماكن تواجد المطارات.

أدى الملح أيضًا إلى ظهور العديد من أسماء الأماكن البريطانية، وفى بعض الأحيان أثر فى طبيعة مناظرنا الطبيعية أيضًا. والمصطلح الأنجلو ساكسونى لأعمال الملح هو «wich»، وأى بلدة أو قرية تحمل هذه  الحروف كانت بالتأكيد مركزًا لإنتاج الملح فى وقت ما فى الماضي؛ كما فى شيشاير، وتم فصل أعمال الملح الرئيسية فى نانتويتش ونورثويتش. وفى أواخر القرن التاسع عشر، بدأت المشاريع الضخمة بالظهور فى جميع أنحاء العالم، فابتلع بعضها المساكن ومنازل الغلايات والمداخن. رأى المتعصبون الدينيون يد الله فى هبوط نهاية العالم؛ وألقوا خطبًا على أطراف الحفر لتحذير المذنبين من أن الجحيم سيحل عليهم قريبًا. فى الواقع ، كان عمال الملح فى شيشاير يستخرجون المحلول الملحى بسرعة كبيرة من طبقات المياه الجوفية الموجودة تحت أقدامهم، لدرجة أنهم أضروا بالسلامة الهيكلية للبيئة الطبيعية؛ وغمرت المياه العذبة لتحل محل المحلول الملحى المستخرج؛ وذاب المزيد من الملح من الطبقات المحيطة. فى نهاية المطاف هجر الكثيرون إنتاج اقراص العسل المتبقى من الصخور وبدأ الهبوط فى الارض جنبًا إلى جنب مع أعمال الملح، فى الكثير من المناطق الريفية المحيطة. وبعيدًا عن كون استخراج الملح يعد نذيرًا لجحيم مسيحى، كانت مشاريع أستخراج الملح فى شيشاير مجرد مثال على الجحيم البيئى الروتينى، الذى يميز الثورة الصناعية.

الملح مليء بهذه الحقائق والروابط الرائعة. قبل أيام التبريد، على سبيل المثال، كان التمليح هو الطريقة الرئيسية للحفاظ على الطعام القابل للتلف، وخاصة سمك القد والرنجة، وهما من الأطعمة الأساسية فى أوروبا، ولكون المناخ الشمالى غير مناسب بشكل عام لإنتاج الملح، على نطاق واسع عن طريق تبخر المحلول الملحى، فنادرًا ما تشرق الشمس، ويخفف المطر بانتظام، لذا فإن التجارة مع البلدان ذات الموارد المناخية لإنتاج الأشياء الرخيصة وخاصة الملح، أصبحت مهنة يمكن أن تنجم عنها ثروات هائلة. علاوة على ذلك، وقع التأثير السياسى العميق على الدول التى نجحت، من خلال الثروة الجغرافية الجيدة أو القوة العسكرية الاستعمارية، فى ممارسة السيطرة على التجارة فى هذه السلعة المرغوبة للغاية. بالطبع قد يبدو كلوريد الصوديوم مادة عادية وغير ضارة لنا اليوم، لكنه عمل كوسيط رئيسى للسلطة والتأثير فى جميع أنحاء العالم.