عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

خارج السطر

 

 

الأخلاق ليست معلقة سُكر زائدة لمشروب لذيذ.. ليست قُبعة زينة لرجل أنيق، وليست خاتم فضة يُجمّل الكف.

لذا، أعارض تصور فصل الأخلاق عن الإبداع فصلا تعسفيا، ولا أتقبل مُبدعا رائعا وماتعا يحمل من الغطرسة مقدار ما يحمل من الموهبة. وربما هذا ما دفعنى ألا أتابع أعمال محمد رمضان الدرامية الأخيرة، حتى لو كانت كبيرة التكلفة، جيدة السيناريو، مُتقنة الإخراج. فصلتنى مواقفه عنه فصلا كاملا، وأوصدت حكاياته، وطرق تعامله مع الناس أى باب أو نافذة لمتابعة فنه.

ينتحر الموهوبون غرورا. تملأهم فيوضات التقدير المُحيط فترتفع رؤوسهم رويدا، إلى أن تتعلق فى السماء، فلا يرون البشر. يسرى سرطان الغرور فى خلاياهم، فينهش بقايا الإنسان داخلهم، فيظنون أنهم أكبر منه، فلتات تصل إلى مستوى الآلهة، وكل ما حولهم مُسخر لهم لأنهم الأفضل والأعظم والأجمل.

مأساة الولد الذى أفلت من مُستنقعات اللاشيء أن موهبته قُدرت، وأن بشرا طيبين مدوا سواعدهم لإظهارها وإمتاع الناس بها، وهو ما لم ينتظره أو يتوقعه فانشرخ وجدانه، وسقطت قيمه. أوحلته القمة، قصقصت ريش الجمال داخله، أشعرته أنه سبب سعادة، وباب رزق، فصار كُل من يعملون معه يعملون لديه، وأصبح من ينصحونه أو ينتقدونه خصوما وأعداء للموهبة والرقى.

لم أصدق مشهد بعثرته المال، بعد حُكم قضائى بالتعويض حصل عليه طيار مصر للطيران الذى فُصل لأنه سمح له بدخول كابينة القيادة. تصورت أن الأمر محض مبالغة فيسبوكية، حتى رأيته، فتوجعت وحزنت وأيقنت أن النجاح قد يدفع إلى الفشل.

ما الفن إن لم يُخفف وجعا؟ ما الجمال إن لم يُرقق قلبا؟ ما المتعة إن لم تغرس قيما؟ ما الحياة والنجومية والتحقق إن لم تُمثل جذوة تحفيز وماكينة دعم لأصحاب المواهب والمجتهدين للتطور والتقدم؟

هناك نجوم كُثر قتلهم تحققهم. صعدوا بكفاح، وتألقوا بوهج، وأسعدوا الناس فأسعدهم الناس، لكنهم عند نقطة بعينها انفصلوا عن البشر، فسقطوا من شاهق. لا ألق يدوم، ولا مجد يبقى للأبد، ومَن لا يتعلم من السابقين، يُكرر خطاياهم.

كان نجيب محفوظ، أعظم مبدعى مصر يُدرك ذلك جيدا. لم يكن ساحرا فى الحكى وماتعا فى الكتابة فقط، وإنما كان فريدا فى أخلاقه، تواضعه، بساطته، رُقيه، شعوره بالانتماء للناس، وحرصه على أن يكون منهم لا فوقهم. كُتلة جمال إنسانى وسيرة عطرة خالدة تُحكى إلى يوم القيامة.

 حكى لى أديب كبير أنه كتب قصة قصيرة وهو صغير، ولم يعرف تقييما موضوعيا لها، فنصحه البعض بعرضها على نجيب محفوظ. كيف؟ سأل الرجل، فقيل له إنه يسير كل يوم فى الثامنة صباحا ليعبر كوبرى قصر النيل فى طريقه من البيت إلى جريدة الأهرام. بالفعل استيقظ مبكرا، وانتظر الرجل حتى إذا رأه سائرا اقترب منه واستوقفه فوقف، وأعطاه القصة. قال لى الحاكى « توقعت أن يغضب الأديب الكبير على هذا التطفل، أو يرفض ويُعيد لى القصة، أو ينهرنى لكنه لم يفعل. ابتسم فى رقة وقال له : أشكرك على هذه الثقة. دعنى أقرأها وفى الأسبوع القادم فى نفس الوقت سأخبرك برأيى.» وفى اليوم الموعود، عاد كاتب القصة إلى كوبرى قصر النيل فى توقيت مشابه، ووجد نجيب محفوظ يسير فى هدوء محتضنا أوراق القصة، وقد كتب عليها بعض الملاحظات. وقف معه، وكرر شكره على ثقته به، وأخبره أن العمل جميل لكنه سيكون أجمل لو فعل كذا وكذا.. وسارا معا كصديقين.

ومثل هذا الخُلق هو سر خلود نجيب محفوظ لا نوبل.

والله أعلم.

 

[email protected]