عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عطر الأحباب

 

 

ما أكثر وأعظم الأعلام والعلامات فى دولة التلاوة القرآنية المصرية، لكن الشيخ محمد رفعت نسيج وحده. يلوذ المستمعون إليه بحدائق عذوبته ورقته وصفائه عندما يحاصرهم الاكتئاب والإحباط، ولا شيء يثير الدهشة فى ولع مكرم عبيد ونجيب الريحانى به. لا يتعارض الانتماء إلى دين غير الإسلام مع البحث عن السلام الروحى مع القارىء الجميل السمح، المبشر دائما بعفو الله ومغفرته ورحمته. فى حضرته البهية تتوارى الضغائن والأحقاد، وتبدو الحياة محتملة على الرغم مما تحفل به من الشرور والآثام.

عبقرية محمد رفعت «1882-1950» تتجاوز الإطار الدينى التقليدي، ذلك أنه يصنع حالة إنسانية دافئة مشبعة ممتعة لا يمكن الإفلات من سحرها. قد يكون المستمع إليه مسلمًا أو مسيحيًّا، مؤمنًا بالله أو ملحدًا أو لا أدريا، ولا مهرب فى الحالات جميعا من الاعتراف، ممتنًا شاكرًا، بأنك تغتسل وتتطهر وتسعد بعناق السكينة ونسمات المودة عندما تستمتع بصوت القارىء الاستثنائى الفذ، صاحب الحنجرة الذهبية التى يصعب أو يستحيل تكرارها.

 فى حضرة الشيخ ذى الصوت النقى التقى الهابط لتوه من السماء، طازجا صافيا لا ذرة فيه من الشوائب والعكارات، لابد أن تعقد معاهدة سلام مع الدنيا الحافلة بالابتذال والضجيج والسوقية والقبح. الأمر هنا لا يقترن بالزهد وليد الضعف وقلة الحيلة، بل هو التحليق إلى عالم بديل مضيء، يمنح ما يضن به الواقع المتجهم. يصطحبك صوته إلى شارع جانبى هادىء خافت الإضاءة، تتسرب من شرفات منازله ذات الطرز المعمارية البديعة موسيقى لا عهد للبشر بها.

ما أكثر المسيحيين الذين لا متعة فى حياتهم تفوق الاستماع إلى سورة «مريم» بصوت الشيخ، ولا يعنى هذا أنهم يقتربون من إشهار إسلامهم، لكنه يشير إلى وحدة الوجود الإنساني، تلك التى تتجسد فى أبهى صورها عبر الآفاق الرحيبة التى تنبثق مع قيثارة السماء.

كان الملك فاروق والزعيم مصطفى النحاس من عشاق صوت الشيخ محمد رفعت، ولن ينسى التاريخ أنه قد افتتح بث الإذاعة المصرية سنة 1934 بآية من أول سورة الفتح :«إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا». يتفق الباحثون المتخصصون على تفرد الشيخ وسمو مكانته، ليس لأنه صاحب صوت جميل ساحر عذب فحسب، بل لأنه أيضا من البارعين فى التأثير غير المحدود على أرواح مستمعيه، مسلحًا بسلاسة الانتقال بين المقامات من ناحية وروعة الإحساس بما يتلوه من ناحية أخرى.

على صعيد الحياة الشخصية، كان القارىء الفذ بسيطًا متواضعًا كريمًا رقيقًا ذا عواطف جياشة، أما اعتزازه بكرامته وكبريائه فمما يُضرب به المثل، وليس أدل على ذلك من اعتذاره عن عدم قبول تبرعات محبيه للمساعدة فى تكاليف علاجه، قائلا كلمته ذائعة الصيت :«إن قارىء القرآن لا يُهان».

مشهد حزين موجع لابد من التوقف أمامه فى مسيرة الشيخ محمد، ونعنى ذلك اليوم الكئيب المقبض فى العام 1944. الشيخ العظيم فى مسجد فاضل باشا، الذى شهد بدايته وتوهجه، والعلة تحاصره فلا يطاوعه الصوت الذهبي. ينسحب فى صمت، ويعلو بكاء عشاقه الذين يُقدر لهم أن يعايشوا اللحظة الكابوسية الكارثية؛ نهاية الرحلة الأسطورية.

لا شك أن الشيخ كان يرى ما لا يراه المبصرون والعاديون من الناس: طاقات من النور، حدائق الجنة الخضراء، مجالس الملائكة ومسامرات الأرواح الطيبة. يملك الدنيا ويتعالى على من يزعمون بالباطل امتلاكها، ويصيبه سرطان الحنجرة فيبتعد فى سنواته الأخيرة متدثرا بالكبرياء والكرامة، وأعظم ما يمكن أن يزهو به الإنسان؛ الرضا.