عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

أوراق مسافرة

 

سنوات طويلة مضت وأنا أبحث عنها فى الدروب والوجوه الطيبة، فى الأعياد، أسأل عنها بقايا الأشياء التى تركتها خلفها عن آثار سحرها، ساحرة هى من نوع فريد، بأصابعها طاقة إيجابية خلاقة تسرى إلى جسدى بمجرد لمسه، بمنديلها الأبيض ذى الحروف المطرزة عشرات الأشياء، قطع حلوى، نقود، هدايا صغيرة، عينى حين «يطرفها التراب أو رمش منكسر» تضع منديلها الأبيض عليها و«تنفخ» أنفاسها فتشفى عينى، ولا تسألونى كيف!، يدى حين أجرحها بجهالة طفولتى وعبثى، تلف منديلها على جرحى وتقبله فيشفى الجرح وكأن قبلتها بلسم ومطهر شفاء، حين تلهب الحمى رأسى، تبلل منديلها الأبيض بالماء، وتضعه على رأسى مع آيات من القرآن، فأشفى، حين يرتعش جسدى برداً، تضع منديلها على صدرى وفوقه ورقة من جريدة فتدفئه.. أنام فيأتى الصباح وقد شفيت، حين يحزننى أمر أويخذلنى شىء ما، أجىء إليها باكية ملتاعة، فتأخذنى فى حضنها الدافئ، فأشعر بأنى أمتلك العالم، واخرج له لسانى تشفى فى ضعفه لأنى تحت حماية ملكة عظيمة، لن يجرؤ أحد على الاقتراب منى أو إيذائى وأنا بين ذراعيها.. فيذهب همى، وهى تروى لى قصة أو دعابة ذات مغزى، تهدئ بها روعى، وأشعر بأن كل مشاكل العالم تافهة أمام «حلول» تلك الساحرة العجيبة الأسطورة.. أمى.

أى نوع من السحر هذا كان بين أصابعك.. حضنك.. منديلك.. كلماتك، أو تعلمين أن طاولتى امتلأت الآن بالأدوية فاقدة التأثير فى الشفاء، وكنت تملئينها لى بالحلوى والفاكهة التى كانت تجعلنى أطير فى الحياة كالفراشة، أو تعلمين أن عينى «طرفها» الدمع المالح الحزين ولا تطيبها أدوية العالم، وأن جسدى امتلأ بالجراح، فلا منديل يطهرها، ولا حضن يهدئها، أو تعلمين أن قلبى مفعم بالأحزان، وروحى مزقها الخذلان، ولا شىء يواسينى بعدك، كنت أعتقد أنى ورثت عنك صبرك كما ورثت طيبتك وعطاءك وحبك لكل الناس، لكنى وجدتك فريدة فى صبرك... أو لعل ما لاقيته من البشر دمر إرثى من جينات الاحتمال.

أشكو لروحك بعد ربى.. الأيام الحزينة لا تنتهى، يتساقط الأحباب والأصدقاء من حولى.. إما بالموت وإما بالحياة، أفتش فى تلابيب البشر عن كلمة حق.. نبض للصدق.. فيفجعنى الغدر والخذلان وكل تفاصيل الجحود والنكران.

كلما جاء يوم عيدك تتراكم علىّ تلال الأحزان، ويتعمق لدىّ شعور اليتم، أمى.. أتوسل لك، أرسلى إلىّ عبر الأثير رسالة صبر، ونفحة أمل، وبعضاً من أنفاسك ومنديلاً أبيض يدثر وحدتى، لو تعلمين كم أشتاق إليك، دعينى أحكى لك كما كنت دوماً، فبالأمس القريب فقدت العشرات من الأصدقاء والأقارب والزملاء، بالأمس فقدت أستاذاً كان يتعامل معى كأب، وسأفتقده كثيراً لتزداد الحياة حرماناً من الحب والصدق...

فقدت الأستاذ عباس الطرابيلى، لا.. لا أحدثك عنه ككاتب مثقف قرأ أمهات الكتب من التراث والتاريخ وكل صنوف الأدب والثقافة، لا.. لا أحدثك عنه كرئيس تحرير سابق لجريدة «الوفد»، تتلمذ على يديه الكثير والكثير من الصحفيين، لا.. لا أحدثك عن خفة ظله وتواضعه، أحدثك عن الأب الإنسان الطرابيلى، الذى كان وكنت لا نفوت أى فرصة أو مناسبة إلا ونتواصل، ولا يفوته أن يعطى الهاتف لحرمه السيدة فريال لتكلمنى، تلك السيدة الطيبة الكريمة التى لم يفارقها مطلقاً، كان يراها كل النساء.. ولا يرى سواها، وكان يجد من وقته ما يسألنى فيه عن حياتى وأولادى فى الغربة، ويدعو لى ولهم بالسعادة والتوفيق، أحدثك عن الأب الكريم الذى إن زرته بالبيت، يبادر وزوجته بمد مائدة عامرة بكل ما يحتويه بيتهم العامر من طعام وحلوى وعصائر، وأضحك مازحة «أنا مش ديناصور» وعندما أعجز عن تذوق كل ما قدموه، يطلب منها أن تعد لى علبة من الحلوى لأخذها معى، وأقسم رفضاً ويقسم إصراراً، وأخضع لقسمه احتراماً.

بالأمس رحل.. تاركاً خلفه المزيد من الأحزان.. ولوعة الفراق.. فيما السيدة فريال التى كانت ترقد مريضة بغرفة مجاورة بالمستشفى لا تعلم بعد خبر موته.. أخفى عنها الأولاد والأحفاد النبأ المفجع رفقاً بصحتها، يا لقسوة الحياة والأيام الحزينة.. أمى عذراً لبكائى فى أيام عيدك، شعورى باليتم يزداد يوماً بعد يوم.. ويوم لقياك.. هو المفر.

[email protected]