عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

قامات.. وآهات

عاش حياته يحمل لقب " شاعر البؤس" , نشأ في أسرة ريفية بالغة الفقر, وكان من الممكن أن تنتهي حياته في قريته الفقيرة على نحو آخر, فقد ألحقه أبوه ليعمل صبي جزار, لكن الفتى كان متمردا منذ صغره, وكان ذكيا متفوقا في دراسته التي بدأها بحفظ القرآن في كّـتـاب القرية, ومنها إلى دراسة أزهرية في الاسكندرية ثم في القاهرة استطاع انهاءها رغم مشقة الفقر الشديد, ومن الأزهر الى دار العلوم التي كانت توفر لطلبتها الغذاء وبعض المعونة المالية.

 كان الطريق الطبيعي يقود عبد الحميد الديب لأن يكون عالما أزهريا أو مدرسا محترما للغة العربية, لكن القدر كان يخبىء له شيئا آخر, وكانت نفسه المضطربة تقوده الى طريق مختلف.. ليتحول في النهاية الى شاعر يبدد موهبته في استجداء الناس والشكوى من الزمن, بعد أن أدمن الخمر والكوكايين والصعلكة, ويقال إنه التقى في بدايات تحوله مع عبقري الموسيقى سيد درويش وشاركه حياته البوهيمية, وكانت البداية حين كان سيد درويش يجلس في أحد المقاهي (يدندن) بمطلع أغنيته الشهيرة (والله تستاهل ياقلبي) ولايستطيع اتمامها, فاذا بجاره  فى المقعد يقترح عليه المطلع الشهير: والله تستاهل يا قلبي ليه تميل ما كنت خالي.. أنت أسباب كل كربي وأنت أسباب ما جرى لي, ولم يكن الجار ــ كما تقول بعض الروايات ــ إلا عبد الحميد الديب الطالب وقتها في دار العلوم, وكانت صداقة التحق فيها "الديب" بسيد درويش الذي كان يغدق على أصحابه الى حد السفه, وعاش "الديب" سعيدا لأيام لم تطل, فقد اختطف الموت سيد درويش في عز شبابه وقمة إبداعه, ووجد "الديب" نفسه بلا مأوى ولا مورد, وبدلا من مواجهة الموقف, سار في طريق الضياع والصعلكة, وأخذه الإدمان إلى حيث أصبح أضحوكة في مجالس الشعراء والأعيان, يستجدي الطعام والشراب ويدفع الثمن من كرامته المذبوحة ويهدر طاقته الإبداعية في شعر ماجن يسترضى به الصحاب في السهرات:

هات المدام فدين الله تيسير..   فأسعد الناس مخدور

هات المدام ولا تعرض لمتربتي ..  مهما غلا العيش لم تغل القوارير

 ثم يصحو على مأساته, وبدلا من أن يثور على ضعفه, يبحث لنفسه عن الأعذار, ويوجه سهامه للدنيا والناس والظروف التعيسة: يقولون سكير .. فهل شربوا كأسي

 وهل شربوا البلوى كما شربت نفسي

 مضى الشعب عني غافلاً فجزيته

على حسه الغافي بمختبل الحس وسكري

صحو في بلاد أرى فيها حياتي

 لم تنجح على الطهر والرجس

 

 وتستمر الدائرة لتطبق على الشاعر الموهوب, يهرب من بؤسه إلى الإدمان, ويقوده الإدمان الى حافة الجنون, ويدخل السجن أكثر من مرة بتهمة التشرد والصعلكة, أو السكر وشم الكوكايين, أو التهرب من الدائنين, ولكن السجن لا يردعه, ويدخله الصحاب إلى مستشفى للأمراض العقلية ليعالج من إدمانه, ولكنه كان يرى السجن إنقاذا له من عالم يظلمه:

 له بفؤادي لذة ووجيب ..  ومنه لقلبي بلسم وطبيب

 أما مستشفى الأمراض العقلية, فيعود له وعيه فيها ويسترد شيئًا من عافيته فينشد:

 رعاك الله (مارستان) مصر فإنك دار عقل لا جنون

 حويت الصابرين على البلايا ومن نزلوا على حكم السنين

 ويخرج من المستشفى أحسن حالاً, ويتزوج من أرملة, وتختلط المأساة بالملهاة في ليلة زفافه, فالحفل يقام في غرفته الخاوية, والمدعوون جاءوا للسخرية وليس للإحتفال, والبؤس يظلل الليلة, ومن الفرحة المسروقة يبكي:

 لقد حسدوني ليتني كنت دونهم فؤادا .. وأقضي بعض عمري منعما لكن البؤس يطارده, والصعلكة ترافقه, وينتهي الأمر بالطلاق بعد ان كتب عدة قصائد رقيقة في زوجته التي أحبها. ولا يبقى له الا التشرد, ويحاول البعض مساعدته, ويعمل مصححا في إحدى الصحف مقابل طعامه ومأواه وتذكرة كوكايين كل يوم, وبعد أيام يلجأ أصحاب الصحيفة الى إعطائه ورقة بها جير بدلا من الكوكايين, ولا يدرك الفرق, ويظن أصحاب الصحيفة عندما استمر الحال على ذلك بعض الوقت أن مصارحته بالحقيقة سوف تجعله يبتعد عن هذا الداء الوبيل, ويصارحونه ولكنه يثور ويعتبر ما حدث خداعا له,ويترك العمل ويعود للشارع, ولكنه لا يترك الشعر ولا يتركه الشعر, فيقول قصيدته الشهيرة الماجنة:

دع الشكوى وهات الكأس نسكر      ودعك من الزمان اذا تنكر

وتبلغ أحواله من التردي أن يقبل العمل مساعدا لأحد الدجالين يندس بين الزبائن ليقوم بالدعاية له والإبلاغ عن (كراماته) المزعومة, وكالعادة يترك العمل في أول فرصة. ويبتسم له الحظ مرة حين ألقى قصيدة في حفل كبير بمعهد الموسيقى حضره وزير الشؤون الإجتماعية, وهي الوزارة المشرفة على الفنون في ذلك الوقت, ويعجب الوزير بالقصيدة, ويلحقه بعمل في الوزارة, ويذهب فلا يجد مكتبا يجلس عليه ويكتب للوزير: بالأمس كنت مشردا أهليا واليوم صرت مشردا رسميا, ويصبح له مكتب, ولكنه لا يستمر كالعادة في عمله, ويعود للصعلكة وتتجاور القصص عن بؤسه وحاجته, مع قصص النوادر التي يصنعها بطيشه, فهو جاهز دائما بقصائد في الهجاء أو المدح (حسب الطلب), وهو شريك دائم في مجالس الظرفاء مع شاعر النيل حافظ ابراهيم وعبدالعزيز البشري وكامل الشناوي وإمام العبد في "مقهى الفيشاوي" أو"بار الانجلو" أو غيرها من الأماكن التي كانت تضم هؤلاء الساخرين العظام, لكن "الديب" بالطبع كان هو الطرف الأضعف يعبث به الأصدقاء فيغضب, ويسترضونه فيرضى. وكان "الديب" يرد هجاء مرا أو مديحا جريئا حسب الأحوال, ولكنه يحتبس في نفسه في كل الأحوال مرارة العلقم من الحياة والأصدقاء والظروف التي جعلته يبدد موهبته في الخمر والمخدرات والصعلكة.

 وهناك واقعة تصور جانبا من تمرد هذا الشاعر البائس الذي كان ينظم القصيدة مقابل أن يتعشى, فقد جاءوا اليه يطلبون منه قصيدة بمناسبة زواج الملك فاروق للمرة الأولى فيعلن ثورته في قصيدة لاذعة:

أأصوغ في عرس المليك قصيدتي .. وأنا إلى الموت الرهيب زفافي وطويت عمري لم أفز بحليلة ..  إلا حليلة عزتي وعفافي

 لو كنت من شعب المليك نظمتها من بهجتي وعواطفي وشفافي

رحل"الديب"  في الأربعينات بعد حياة شاقة ومضطربة ذاق فيها الجوع والتشرد, ورثاه صديقه الشاعر كامل الشناوي بهذا الرثاء الشهير (اليوم مات شاعر تعرى واكتست الأضرحة, وجاع وشبعت الكلاب).

 

[email protected]