عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

تأملات رمضانية (3)

 

قبل أن تقرأ.. ليست هذه التأملات التى أٌقدمها على مدار شهر رمضان لهذا العام وتقرأ حلقتها الثالثة الآن، كتابة فى الدين أو حول الدين، وإنما هى سياحة فكرية تحلق فى آفاق الدين دون أن تقترب منه، وهى تأتى على عادة الصحافة العربية أو الإسلامية فى الاحتفاء بالشهر الكريم بتقديم مواد خاصة هى أقرب إلى الواحة يرتاح فيها القارئ مما قد يلقاه من مشقة فى الصيام.

على خلفية هذا التقديم قد لا يكون غريبًا على القارئ أن يكون موضوع تأملاتنا هذا الأسبوع هو ما يمكن وصفه بـ «آدب الأخرة» عند لويس عوض، ورغم أن الرجل لم يقل بالمفهوم بشكل واضح، فإن تلك هى الرؤية التى يمكن أن تخلص إليها، وقد تسعى لتطويرها، بعد أن تفرغ من كتابه الشيق على «هامش الغفران»، والذى انتابنى قدر من الإستغراب بشأن عدم إعادة طبعه رغم مرور أكثر من نصف قرن على إصداره الأول عام 1966 عن دار الهلال.

وبغض النظر عن المعركة الفكرية التى كان الكتاب سببًا فى نشوبها وامتشاق العديد من الكتّاب على رأسهم محمد محمود شاكر سهام القلم لرشق لويس عوض بها، وبغض النظر أيضًا عن شطط الفكرة التى ذهب إليها عوض وما يمكن أن تشير إليها بشأن ما قد يراه البعض مجمل منطلق مشروعه الفكري، إلا أن عوض يفتح لنا من خلال الكتاب- كانت مادته بحوث تسعة نشرها فى ملحق جريدة «الأهرام»- عالم جديد يقودنا إلى ما وصفناه بـ«أدب الآخرة».

الفكرة الرئيسية لعوض تقوّض أصالة هذا النوع من الأدب إسلاميًا وتعيده للغرب مرة ثانية، فإذا كان المتعارف عليه وأصبح فى عداد ما هو مستقر فكريًا أن دانتى قد تأثر فى «الكوميديا الإلهية» بالإسلام وبخاصة «رسالة الغفران» لأبى علاء المعرى وهو ما أفرد له القس والعالم الإسبانى ميجيل آسين كتابًا كاملًا بعنوان: «أثر الإسلام فى الكوميديا الإلهية» فإن عوض يقوم بسلوك معاكس حتى يبدو لك وكأنه يقول للغرب تلك بضاعتكم ردت إليكم، حيث يذهب فى كتابه إلى أن المعرى فى كتابته لرسالة الغفران لم يقدم بنات أفكاره وإنما كان مطلعًا فى ذلك الصدد على تراث اليونان.

عند هذا الحد يبدأ موضوعنا، والفكرة أن السياحة إلى الآخرة وعرض ما فيها- كل حسب عقائده- جزء أصيل فى الأدب الإنساني، والمثل الذى يبدأ به عوض هو «كوميديا الضفادع» لارسطوفانيس الذى يصفه بأنه سيد الكوميديا اليونانية وترجمها عوض عام 1964 فديونيزوس إله الخمر عند اليونان وأثر حزنه لموت الشاعر التراجيدى أوربيديس يقرر أن يرحل إلى العالم الآخر ويعود بأوربيديس إلى عالم الأحياء، فـ«الضفادع» تصور رحلة إلى دار الآخرة، حيث أرواح الموتي.

وعلى وقع إغراء مثل هذا الكشف بالنسبة لعوض يبدأ رحلة فى تاريخ الأداب العالمية لينتهى من ذلك إلى أن أرسطوفانيس والمعرى ودانتى لم يكونوا الأدباء الوحيدين الذين زاروا الآخرة- فى رؤيا الخيال- ووصفوها فى أدبهم للناس، موضحًا أن رحلات الشعراء للعالم الآخر كانت قبل هوميروس ولم تنقطع بعد هوميروس.

بعيدًا عن جدل فكرة عوض التى استفزت ناقديه، وتبسيطًا للأمر نشير إلى ما يؤكد عليه من أن الأوديسة هى أقدم نص أدبى نعرفه جاء فيه وصف للجنة والجحيم ورب كذلك المطهر الذى يقال إنه قائم فيما بينهما. ويمد عوض تصوره ليصل به إلى ملحمة «جلجامش» البابلية الشهيرة التى يرى أنها تصور زيارة البطل الأشورى جلجامش للجحيم وتصور زيارة الربة عشتروت أو عشتر للجحيم، وإن كانت هذه الرؤية لعوض بشأن جلجامش فيها نظر ليس هذا مكانه.

وفى إطار سياحته الأخروية والتاريخية أيضًا يوضح لنا عوض أنه حتى فرجيل شاعر اللاتينية الأعظم كان له إسهامه فى هذا الصدد من خلال «الإنيادة» والتى جاء فيها وصف لزيارة البطل إنياس للعالم الآخر، ليقفز بنا بعد ذلك إلى موضوعه وهو رسالة الغفران لأبى علاء المعرى والتى جاءت كما ذهبت الدراسات ردًا على رسالة لإبن القارح- لا مجال للتفصيل بشأنه- ختمها بذكر خوفه من الجحيم وناره الآكلة، فتصور المعرى فى رسالة الغفران رحلة ابن القارح فى الدار الآخرة إلى الجنة واصفًا إياها بشكل يتوافق مع ما جاء فى المصادر الإسلامية وإن كان عوض يلحظ أن بعض الأوصاف لا نجد لها أثرًا فى تلك المصادر، وعلى هذا الأساس يبنى فرضيته بأن المعرى كان مثقفًا فى تراث اليونان القديمة وهو ليس موضوعنا.

ثم جاء دانتى بالكوميديا الإلهية ليروى قصة رؤيا أو حلم زار فيه الآخرة، حيث يعثر فى رحلته على الشاعر فرجيل الذى يعده بأن يكون قائده ودليله فى الآخرة وأنه سيطوف به فى عرصات الجحيم، حيث الخطاة يصرخون من عذاب جهنم ثم المطهر، حيث يرى الخطاة راضين بنار المطهر، آملين فى أن تطهرهم ناره من ذنوبهم، ليقوده بعد ذلك إلى الفردوس.

ربما لم يتوقف أدب الآخرة عند دانتي، وإن كان يمكن أن يعتبر بمثابة نهاية الكتابات الكبرى لهذا النوع من الأدب، الذى أتصور أنه يستحق جهدًا أكبر يراكم على ما قدمه الراحل لويس عوض بغض النظر اتفقنا أم اختلفنا معه فيما ذهب إليه!

 [email protected]