عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

من إشارات التاريخ المبكرة لفقدان أمة ما لهويتها أن تتآكل ذاكرتها ويصيبها ما يصيب الطبيعة من عوامل التعرية.. أخطر أنواع التعرية تعرية العقل والذاكرة لأنها تكون حالة أقرب للتعرى منها للتعرية بالمعنى الجغرافى والطبيعى، وإن جمعت بين المعنيين حقيقة واحدة أن شيئا ما كان هنا ولم يعد له وجود .. هجمة الكورونا أجبرت كثيرين على الانزواء فى ركن الفلسفة والتأمل الخجول لما كانت عليه حياتنا .. شريط سينمائى يحمل القليل من مشاهد النشوة والفرح والكثير من مشاهد الشهوة والتلذذ بالامتلاك بغض النظر عن شرعية الوسائل، ودون اعتبار لصرخات الضمير المكتومة.

فى ركن الفلسفة أجبرت كورونا البعض على التقرب الخجول لنمط جديد من التفكير الذى يغوص ليكتشف الأعماق ولا يكتفى بالطفو فوق أكتاف أنهار الحياة كما تطفو أى جيفة بالية .. ولأن ثقافة كراهية التاريخ ورائحة الزمن هى الموضوع المسيطر فى الدراما والأغانى والأزياء والتعليم وحتى الرياضة منذ خمسة عقود ويزيد، فقد حدث ما يشبه الاغتصاب الجماعى للغتنا التى ورثناها يوما تفتخر بنسبنا بها ونفتخر بنسبنا لها  فإذا بهذه اللغة تتساقط حروفها على أرصفة  الرخص والامتهان لتفقد الكلمات معانيها الى حد الانتحار.. سوف تذهب الجائحة الأصغر كورونا  وتبقى الجائحة الأكبر الكفيلة بموت أمة موتا تاريخيا وثقافيا، وسوف نضع فى ركن الفلسفة من جديد نفايات أفكارنا وعبثنا حتى لا نعود اليها الا  فى أزمنة الجوائح.

 يصور أديبنا العظيم نجيب محفوظ حال حارتنا فى روايته العبقرية أولاد حارتنا تصويرا بديعا يظهر حقيقة أن آفة النسيان هى الغول الذى يفترسنا كل يوم فيما نقرأ أو نشاهد أو نسمع من تفاهات نتخيل وهماً  أنها من صنع مساخيط الفن ومتسولى الثقافة .. الحقيقه أن ضرب الذاكرة المصرية واغتصاب ذهب التاريخ حرب كبرى تنفق لاستمرارها المليارات من الدولارات حتى لحظة الوصول الى نشوة النصر الذى لن يكون سوى عبارة تنزف دما ودموعا وحسره تقول "هنا كان يوما ما تسكن أمة طال عمرها أكثر مما يجب" .. يقول الراوى العظيم فى أروع تجلياته أولاد حارتنا: المتأمل لحال حارتنا لا يصدق ما تقول الرباب فى القهوات. من جبل؟ ومن رفاعة؟ ومن قاسم؟ واين الآثار التى تدل عليهم خارج نطاق القهوات؟ أما العين فلا ترى الا حارة غارقة فى الظلمات وربابا تتغنى بالأحلام . وكيف آل الأمر بنا الى هذا الحال ؟ أين قاسم والحارة الواحدة والوقف المبذول لخير الجميع؟ وماذا جاء بهذا الناظر الجشع وهؤلاء الفتوات المجانين؟.

عام 1788 وقبل عام من اندلاع الثورة الفرنسية كتب الإنجليزى  آرثر ينج  - 1741 – 1820 يقول فى وصف بديع لأعداء التاريخ والهوية وقت لم يكن من وسيلة للمعرفة والتأثير والكذب غير الكتابة والقراءة  "إن قراءة التاريخ الحديث هى أسوأ ما يمكن للانسان أن يفعله. ان الانسان يبتلى بالقراءة عن أعمال طائفة من الناس بغيضة يسمى أفرادها فاتحين وأبطالا وقوادا" .

أما لو توقفنا أمام الفليسوف والسياسى الفرنسى  مونتسكيو (1689 – 1755 )   وفهمه للتاريخ فإن من منا مازال يتردد على ركن الفلسفة المنسى، سيكتشف أن الرجل وكأنه قد سافر للمستقبل، وها هو بيننا اليوم يقول: ان المصادفة لا أثر لها فى التاريخ، وإن لكل حادث أسبابه المعنوية والمادية التى تعمل فى كل دولة، فترفع قدرها أو تحافظ على كيانها أو تسقطها، وهذه القوانين تحكم كل حوادث التاريخ، واذا كنا نسمع مثلا أن دولة كبيرة ضاعت نتيجة لهزيمتها فى معركة فاصلة كما انهارت سلطنة المماليك فى مصر بعد معركة مرج دابق 1516، فهناك اسباب بعيدة هى التى أدت الى هزيمتها فى تلك المعركة وضياعها على أثرها. ولعل ذلك ما وعاه نزار قبانى حيث راح فى إحدى قصائده يرثى أمة فى رجل .. أمة  أودعت ذاكرتها فى مخازن النسيان.