رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

تأملات

فى عام 1994 تعرفت على زميل سودانى خلال عملى بجريدة المدينة السعودية بجدة أدت «كيمياء العلاقات الإنسانية» بيننا إلى تقاربنا بشكل كبير حتى أنه أصبح ينظر إليه باعتباره توأم روحي، وعزز هذا التقارب تواصل رحلة العمل فى الإمارات بجريدة البيان فى دبي، واستمرار تواصلها حتى الآن، حيث يحرص على زيارتى كلما قدم إلى مصر. ما كان يجمع بيننا هو ما كان يجب أن يفرقنا.. اختلاف العادات والطبائع والأفكار والرؤية للعالم! كنا نتناقش فى كل شىء ويعلو صوتنا، ونتشاجر ويتدخل الآخرون لوقف هذا الشجار الذى يتركز حول قضايا متنوعة مما نواجهها فى مسيرة الحياة.

كان من بين الموضوعات محل الجدال بيننا الموقف من الاستعمار، كنت أتبنى الموقف الكلاسيكى العربى الذى يرى أن الاستعمار «شر محض»، فيما يرى هو، أنه على العكس «خير محض». لم أكن أملك أمام ذلك سوى أن أضرب كفًا بكف، وأتهمه بأنه يعانى من حالة من حالات «استلاب الوعي»! كان النقاش يقودنا إلى شطآن بعيدة من الأفكار والأمثلة التى يدلل بها كل منا على رؤيته، فأذكر له الحال التى نحياها والتى تشير إلى التخلف كنتيجة أساسية من نتائج الحقبة الاستعمارية، فيما يعرض لمظاهر تعكس قدرًا من التقدم يرى أن الاستعمار تسبب فيها، ولم نكن نستطيع تحقيقها لولاه، انطلاقاً من إيمانه الكبير بمقولة «عبء الرجل الأبيض»!

ولأنى كنت قد درست فى مرحلة معينة الاستشراق وقضاياه، فقد كنت أرى أن رأيه ينطبق على الاستشراق أكثر من انطباقه على  الاستعمار، باعتبار ما بينهما من أوجه تماثل، وأن الثانى- الاستعمار- هو الابن الشرعى والطبيعى للأول- الاستشراق. كانت وجهة نظرى أن الاستشراق له مظهران: فردى وعام، وأنه فى شكله الأول ربما يعبر عن حسن نية من قبل المستشرق نفسه، وسعيه لخير المجتمع الذى يدرسه، وهناك فى ذلك نماذج عديدة، فيما أن الاستعمار ليس له سوى وجه عام هو أنه يعبرعن سياسات دول وأنه فى ذلك ينطلق من تحقيق مصالح هذه الدول، وأنه على هذا الأساس من الطبيعى أن يسعى لنهب ثروات الشعوب التى يتم استعمارها وأن أى مزايا تحظى بها هذه الشعوب إنما هى مزايا عرضية غير مقصودة لذاتها، على ذات النحو فى علاقة السيد بالعبد، حيث يفرح العبد بما يزيد من طعام سيده والذى يعود عليه بالفائدة دون أن يعنى ذلك أن هذا الخير دائم إذا ما انفصل عن هذا السيد، أو أن هذا الطعام أعد خصيصًا لهذا العبد!

مرت على ذهنى هذه الخواطر وبإلحاح مع تزايد الحديث حول مخاطر سد النهضة الإثيوبى وأثره على حقوق مصر المائية والتهديد بانتقاصها. صحيح أن الأمر لم يغير من وجهة نظرى تمامًا، لكن لا يمكن نفى أنه ربما خلخل النظرة التى تقوم عليها وجهة النظر تلك, أو بمعنى آخر التسبب فى إحداث نوع من المزج بين الرؤيتين.. رؤيتى ورؤية صديقي، فالاستعمار- ربما ليس كما أتصور أنا- شر محض، وليس كما يتصور هو خير محض، وإنما هو « بين .. بين»! 

صحيح أيضًا أننى أشعر بأنه يصعب عليّ أن أقدم هذا الرأى، لكن تأمل معى المثال الذى أسوقه لعلك توافقنى على ما أذهب إليه.  فى كل حديث عن ترتيبات الحقوق فى مياه النيل، فإنك تلحظ أن الأمر يعود إلى اتفاقيات دولية كانت بريطانيا طرفًا رئيسيًا فيها، سواء نيابة عن مصر كدولة مستعمرة- بكسر الميم، أو كطرف شريك لمصر بذات الصفة. ومن أبرز تلك الاتفاقيات: أديس أبابا 1902، اتفاقية لندن 1906، اتفاقية روما 1925، وأخيرًا اتفاقية 1929 التى وقعت بين مصر وبريطانيا التى كانت تنوب عن السودان وأوغندا وتنزانيا، ونصت على ألا تقام بغير اتفاق مسبق مع الحكومة المصرية أية أعمال رى أو كهرومائية أو أية إجراءات أخرى على النيل وفروعه أو على البحيرات التى ينبع منها. بمعنى آخر أن جانبًا من جوانب حفاظ مصر على حقوقها المائية إنما يعود إلى ترتيبات أساسية كان المحرك لها الاستعمار البريطانى والتى تعد الاتفاقيات التى دخل طرفًا فيها أول اتفاقيات تأخذ صفة دولية تنظم هذه الحقوق منذ أن تكون نهر النيل وبدأت مياهه تصب فى مصر!

 ليس فى الأمر مبالغة، وليس فيه محاولة نسبة فضل لأحد أو سحب الفضل من أحد، أو توجيه اللوم لأحد، ولكن فيه محاولة لاستلهام الدرس والعبرة من تقلبات الأيام ومفارقاتها. تلك التقلبات وتلك المفارقات التى تشير إلى أننا فى ظل الاستعمار استعطنا أن نحظى بحقوق مائية تتجاوز أضعاف نصيب الفرد من المياه ونضمن استمرار تدفقها، فيما أننا لم نحافظ على ذلك الوضع فى ظل حكم أنفسنا بأنفسنا، رغم ما فى هذا الطرح من سذاجة ولكنها سذاجة مقصودة لتقريب الصورة ليس أكثر! وهى سذاجة تغفل أو تتغافل عن تعقيدات المشهد فى كل أحواله، الداخلى والإقليمى والدولي، ولكن لا يمكن نكران أنها تعزز صحة الفرضية التى تم تشييد هذه السطور على أساسها، وهى أن الاستعمار، إذا لم نتفق على أنه خير محض، فربما لا يمكن أن نختلف على أنه بالتأكيد ليس شرًا محضًا! ولعلها نتيجة بعد ثبوتها تكون ذات دلالة أودلالات فارقة!

 

[email protected]