رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

تأملات

عرضت الأسبوع الماضى لجانب من رؤى وأفكار المفكر والمؤرخ العراقى فاضل الربيعى التى أوردها فى كتابه «إسرائيل المتخيلة» والتى مثلت خروجًا على كل مألوف وهدمًا للكثير مما هو معروف مما قد يدخله- ما لم يثبته بالأدلة القاطعة- فيما وصفته بأساطير مضادة يقدمها الربيعى فى مواجهة ما يراه من أساطير يسعى للقضاء عليها.

وأستكمل فى هذه الحلقة عرض جانب من رؤاه مما يدخل تحت نفس الإطار أو التسمية- الأساطير- وهو يرتقى إلى ذلك بالفعل، وإن كان الأمر يقتضى التذكير بأن المحور الرئيسى لفكرته يتلخص فى أن اليمن هو محور أحداث التوراة وليس فلسطين كما هو معروف.

الملاحظ أنه فيما يتعلق بالقضايا التى يبدو القرآن على تماس مباشر معها يبدو الربيعى ممزقًا بين إيمانه وبين «رؤاه التاريخية»! فبالرغم من تأكيده على عدم الرغبة فى الدخول فى إشكاليات تتعلق بالمقدسات الإسلامية، فإن ذلك لا يمنعه من التشكيك بحقيقة وجود النبى سليمان، حيث يقول أنا أؤمن بكل ما جاءت به النصوص الدينية، لكن كمؤرخ ليس لدى أى معطى علمى أو غيره يدلل على أن هناك شخصية تاريخية اسمها سليمان، والذى يرى أنه ليس سوى مزيج من عدة شخصيات تنطبق على مجموعة ملوك باسم شلمانصر من الأول الذى بنى الهيكل وانتهاءً بشلمانصر الخامس. ويكرر النفى ذاته بشأن وجود شخصية داوود، فهو كما يرى، اسم يطلق على كل مخلص يظهر فى حقبة من حقب تاريخ بنى إسرائيل.

من ناحية ثانية ينفى الربيعى أى وجود لملكة اسمها بلقيس، مشيرًا إلى أن الاسم لم يرد سواء فى التوراة أو القرآن. أما عن تفسير كيفية ظهور الاسم، فيشير إلى أن النقوش تتحدث عن ملك يدعى سرجون الثانى يقول إنه بنى معبدًا سماه معبد بلقيس، وأن الاسم مشتق من كلمتين، الأولى: هى كلمة بعل التى تعنى الإله واختزلت إلى بل–قيس، أى الإله قيس.

وضمن أساطيره التى يرددها أن جماعة الفلشتيين أو الفلستيين التى ورد الإشارة إليها فى التوراة ليسوا هم الفلسطينيين، وإنما هم ينتسبون إلى جماعة تدعى الفلش والمقصود هم جماعة الفلاشا بقايا الجماعات العربية التى عبدت الإله فلس، وهم جماعة عرفوا باسم الههم، والذين توجد امتداداتهم الآن فى إثيوبيا.

ما يلفت نظرك غزارة التخريجات التى يقدمها الربيعى لتأكيد فرضية الجذور اليهودية لليمن، وأنها موقع أحداث التوراة وليس فلسطين، ومن ذلك مثلًا إشارته إلى أن الشيكل كان عملة يمنية قديمة، وأن اسم بنيامين «نتانياهو!» يعود إلى أصول يمنية فهو يكتب بالتصويت العبرى «بن يمن»، كما أنك لو مشيت فى تعز، حسب الربيعي، ستجد ما يسمى بنجمة داوود. أما كبرى التخريجات التى قد تجد صعوبة فى تقبلها فتتمثل فى تأكيده أن الهند التى احتلها الإسكندر الأكبر لم تكن سوى سقطرى، حيث كانت اليمن آنذاك تدعى الهند!

مشكلة مشروع الربيعى فى «إسرائيل المتخيلة» أن ذلك البناء الضخم الذى بناه على أنقاض نقده لتفسير الرواية التوراتية، بناء هش. فعلى صعيد حججه اللغوية والتاريخية وأسانيده الدينية، يمكن بسهولة للقارئ أن يلمس تطويع هذه الحجج لصالح رؤيته بما تطلب «لى عنق» الحقائق والكلمات، بل والنصوص الدينية، وهو أمر يطول المجال فيه وقد يقتضى حلقات مطولة. غير أن المهم بالنسبة لنا هنا الإشارة إلى أن حجته الرئيسية تتهاوى أمام بعض الجوانب التاريخية التى يقدمها هو بنفسه فى سياق تناوله.

ذلك أن التفسير الذى يقدمه الربيعى لهذا التحريف لجغرافيا وتاريخ أحداث التوراة هو أنه يأتى لتبرير المشروع الصهيونى فى فلسطين وتسويغ تحويلها إلى وطن لليهود، فى حين أنه بنفسه يعترف بأن اعتبار أحداث التوراة جرت فى فلسطين أمرًا موغلًا فى القدم، وأنه جرى تكريسه مع ترجمة الأناجيل فى أوائل القرن الرابع الميلادى، وهو وضع ازدهر مع مجىء الإسلام، حيث نهلت الرواية الإسلامية من المنبع ذاته وأعادت تكراره، أى أنه أمر سابق لمولد مشروع الوطن اليهودى فى فلسطين. صحيح أن اليمن ربما كان جزءًا من مسرح الأحداث، حتى بنص التوراة والقرآن، غير أنه من المؤكد أنه لم يكن المسرح الرئيسى على نحو ما يحاول أن يوحى لنا الربيعي.

لا يعنى ذلك رفض تنقيب الربيعى فى السرديات التاريخية والدينية، فذلك، بغض النظر عن حجم الشطط فيه جزء أساسى على طريق الوصول إلى الصورة الصحيحة لما جرى من أحداث مضت فى قلب التاريخ، غير أن التريث فى إعلانها وحسم صدقيتها يبقى هو المؤشر الحقيقى المعبر عن «سمت» العلماء! وإذا أضفنا إلى ذلك ما جاء به كمال الصليبى من أن أحداث التوراة جرت فى الجزيرة العربية، فإن ذلك يقتضى منا التريث باعتبار أنه ليس كل ما يأتى به «عالم بنبأ» يجب قبوله والتسليم به! حتى لا تنطبق علينا مقولة الهمج الرعاع الذين يميلون مع كل ريح!

[email protected]