عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

تأملات

إذا أردت أن تعرف السيرة الحقيقية لابن خلدون فما عليك سوى أن تقرأ كتاب «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية» التى نال عنها طه حسين درجة الدكتوراه من جامعة السوربون ونقله إلى العربية محمد عبدالله عنان، وكذلك المقدمة الوافية للدكتور على عبدالواحد وافى المتخصص فى دراسة ابن خلدون والتى كتبها لكتاب المقدمة لابن خلدون وتصلح أن تكون كتابًا قائمًا بذاته وليس فقط مجرد مقدمة لكتاب. وكذلك العمل الأدبى المتميز الذى  يعتبر سيرة ذاتية لابن خلدون اتخذ شكل رواية للأديب ووزير الثقافة المغربى الأسبق بن سالم حميش.

من المؤكد أنك ستخرج من تلك الأعمال بنتيجة غير غريبة عليك وهى أن الرجل مثقف إلى أبعد مدى، قارئ للتاريخ ومحلل له على أفضل ما يكون. وربما تخرج بنتيجة أخرى قد تبدو بالغة الغرابة وهى أن الرجل نفعى كما لو كان هو من اختلق مذهب النفعية وليس جيرمى  بنتام، وأنه انتهازى على نحو يصلح معه ليقوم بتدريس الانتهازية، وأنه يعرف من أين تؤكل الكتف.

وفى ذلك يقول وافى إن ابن خلدون قويت لديه نزعة ذميمة لا يحاول هو نفسه إخفاءها وهى نزعة انتهاز الفرص بأية وسيلة وتدبير الوصول إلى المقاصد من أى طريق فكان لا يضيره فى سبيل الوصول إلى منافعه وغاياته الخاصة أو فى سبيل اتقاء ضرر متوقع أن يسيء إلى من أحسنوا إليه ويتآمر ضد من غمروه بفضلهم ويتنكر لمن قدموا له المعروف. ظلت هذه النزعة رائدة فى مغامراته السياسية وعلاقاته بالملوك والأمراء والعظماء منذ صلته بوظائف الدولة حتى مماته.

بعيدًا عن صحة أو عدم صحة ما ذهب إليه المؤرخ الدكتور محمود إسماعيل من أن ابن خلدون من صنع الاستشراق وأنه لولا ذلك لما كان له ذكر فى عالمنا الإسلامي، على شاكلة دور الولايات المتحدة فى تنجيم عالم الاجتماع الإلمانى ماكس فيبر، فإن ابن خلدون بحق، سواء فى منظور أنصاره أو معارضيه، يعتبر نابغة عصره، وأنه يعكس بحق المفكر الذى سبق زمانه.

ولعل مثل هذه الطبائع والصفات الشخصية تجعلنا نشعر بالفرح والسعادة وينتابنا الحبور بأن تخرج لنا الأمة الكثير من أمثال ابن خلدون. غير أن التأمل فيما حولنا يشير إلى أننا نجحنا وبامتياز فى استنساخ النسخة السلبية من ابن خلدون دون الإيجابية.

دعك من كون الرجل اتخذ شكل مؤسسة أو مركز للأبحاث وغير ذلك، فربما كان ذلك النطفة الأولى لتوليد أمثال ابن خلدون فى طوره الجديد. فأبناء خلدون الجدد لم يقدموا للبشرية شيئًا فى علم العمران أو غير العمران، وإنما شذرات من هنا وهناك لا تغنى فى مجال الفكر والعلم الكثير، رغم أن الله حباهم بعقول هى أقرب لعقل جدهم الأكبر ابن خلدون الطاعن فى القدم. وإن تعجب فلك أن تعجب من قدرتهم على الالتحام مع أى نظام حكم، على نحو يمثل ما يمكن اعتباره إعادة إنتاج عادة ابن خلدون الأصيلة المتأصلة فى طباعه وهى الوقوف مع كل «متغلب ظافر» كما يصف وافى ابن خلدون.

فهؤلاء لا يجدون صعوبة، أى صعوبة فى التعلق بأهداب أى نظام وفى أى مرحلة، أبناء خلدون الجدد فى ظل حكم عبدالناصر ناصريون وزيادة، وفى ظل حكم السادات رأسماليون حتى النخاع وفى ظل حكم الإخوان لا يتركون سجادة الصلاة رغم أنهم لا يجيدون أداءها!

من صفات أبناء خلدون الجدد أن الله حباهم بعقول ساطعة فى نور المعرفة كما سطوع الشمس فى بلاد الفرنجة، ولذلك تجدهم قادرين على إقناعك بالحجة ونقيضها فى الوقت ذاته. إذا مال الحاكم للسلام مع إسرائيل فهم أكثر ميلا وأبرع منه فى تسويق هذا الميل، وإذ كشر عن أنيابه فهم كالذئاب التى تهم لالتهام فريستها، منطلقين فى ذلك من منطق لا يبارى فى التأكيد على ضرورة شريعة الغاب. 

وكما لم يستدع الأمر كثيرًا من الجهد لكى يستولى ابن خلدون على عقل تيمور لنك قائد المغول الذى قدم ليلتهم العالم الإسلامى آنذاك، فإن أبناء خلدون الجدد لديهم صفات خارقة فى الاستحواذ على عقل الحكام الذين يصادفونهم فى طريقهم، حتى أنه يخيّل إليك أنهم لديهم بودرة خاصة لتنويم بطانة أى حاكم والدخول إليه فى عقر داره، حتى ولو كان حاكمًا مثل ترامب الذى يستعصى على التسلل إلى مخدعه أيًا كان!

وعلى غرار الجد الأكبر الذى كان حديث المجالس وملء السمع والبصر، فإن أحفاده فى عصرنا الراهن يملئون كل ما ينتمى إلى ما هو وسائل إعلام من فضائيات وصحف ومواقع الكترونية، هم نجوم يفوق حضورهم ذلك الذى يتمتع به نجوم السينما.

حينما تتامل المشهد الخلدونى فى طوره الجديد فإنك ستوقن أن «اللى خلف ما ماتشي» وأن سلالة ابن خلدون متواصلة فمنهم من هو طاعن فى السن وأقرب إلى القبر منه إلى الحياة، ومنهم من وصل إلى قمة العطاء، ومنهم من هو فى ريعان الشباب يتلمس خطاه للسير على طريق من يسعى لمشابهتهم، إلى الحد الذى ينقلب معه الحال بك لتتمنى لو أن ابن خلدون الأصلى لم يوجد من الأصل منتجا لنا تلك السلالة التى لا هم لها سوى الوقوف مع «المتغلب الظافر»!

[email protected]