رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

على فكرة

تحتفل الأوساط الثقافية هذه الأيام بالذكرى 22 لرحيل الشاعر الكبير «محمد مهدى الجواهرى» (1899 ـ 1997). وتأخذنى تلك الذكرى إلى لقائى العابر الأول والأخير مع «الجواهرى» أواخر الستينيات من القرن الماضى فى مبنى نقابة الصحفيين وسط القاهرة. كان منظمو زيارته لمصر قد أعدوا لمحبى شعره احتفالية به، ليحدثهم عن تجربته الثرية فى الشعر والسياسة والحياة، ويلقى عليهم بعض قصائده.

كان «الجواهري» يجلس على المنصة شامخًا، يرتدى طاقية رأسه الشهيرة، وسط قاعة مكتظة بمحبيه وعارفى فضله. تحدث عن منفاه الاختيارى فى العاصمة التشيكية براغ، بعد أن ضاقت أجواء بلاده بحريته فى التعبير شعرًا ونثرًا. وأجاب عن أسئلة الجمهور الذى أتى لسماع شعره، وما إن همّ بإلقاء واحدة من أشهر قصائده «أخى جعفر» الذى استشهد فى مظاهرة احتجاجية، حتى فوجئ أن الجمهورية يحفظها ويرددها معه: اتعلم أم انت لا تعلم، بأن جراح الضحايا فم، يصيح على المدقعين الجياع، أريقوا دماءكم يطعموا، أتعلم أن جراح الشهيد تظل عن الثأر تستفهم.. صرعت فحامت عليك القلوب، وخف لك الملأ الأعظم.. يقولون من هم أولاء الرعاع، فأفهمهم بدم من هم، وأفهمهم بدم أنهم، عبيدك ان تدعم يخدموا، وأنك أشرف من خيرهم، وكعبك من خده أكرم».

بعد أن ألقى الجواهرى قصائده، بطريقته الأسطورية الساحرة، وألهب حماس مستمعيه، هم بمغادرة مبنى النقابة، فاقتربت منه برهبة ووجل، وقدمت له وردة، فأخذها وابتسامته الجميلة تعلو وجهه، وقال بأبوة حانية موجها حديثه لى ولمرافقيه:

إن مصر تنهض من هزيمتها مثخنة بالورود.

اختلف المثقفون العرب فى السياسة، وأمعنوا فى التراشق والخصومة حول كل شىء، وتعددت اجتهاداتهم، وتناقضت مواقفهم فى أحيان كثيرة، وتنوعت المدارس الفنية والأدبية التى ينتسبون إليها، لكن الجواهرى ظل واحدا من ظواهر قليلة فى خريطة الأمة، وحدت عقلية الخلاف وسط معظم المثقفين العرب، حين اجمعوا، فى واحدة من أجمل لحظات توحدهم، على قيمة «الجوهرى» الشعرية الرفيعة والسامقة. لمشاعر من جيل الرواد والمعلمين العظام، ودوى الرسالات الكبرى. فجمال شعره وبساطته ووضوح رسالته، وضعه جنبًا إلى جنب مع شوقى وحافظ والرصافى وغيرهم من رواد الشعر الكلاسيكى العربى فى القرن العشرين، بل ان محمود درويش ذهب إلى أبعد من ذلك، حين اعتبر أن الثقافة العربية، لم تنجب بعد المتنبى، شاعرًا بالتنوع والثقافة والعذوبة مثل «الجواهرى».

تكمن عبقرية «الجواهرى» فى أنه كان كلاسيكيا وحداثيًا ومعاصرًا، سواء من حيث الصور الشعرية أو القضايا التى يطرقها. ولعل تشبيه درويش له بالمتنبى، يعو إلى قدرته على التجديد فى القصيدة العربية، بشكل غير مسبوق فهو استخدام ثقافته المتنوعة، ومعرفته العميقة بقضايا العصر، وانتمائه السياسى التقدمى، لإثراء الشعر العمودى، والابقاء على جاذبيته وحداثته، وقدرته الفائقة على التعامل مع الواقع المتغير، بما أسهم فى تحرير عمود الشهر من تقليديته، وادخال الحداثة بأعمق معانيها، فى قلب القصيدة التقليدية.

تضافرت الخطوط العامة لشعر «الجواهرى» لتصوغ موقفه من الكون والحياة والأوطان، فى محاور واضحة. فكان مع الأمة ضد أعدائها، ومع الفقراء ضد مستغليهم، ومع الحرية ضد الاستبداد، ومع الشعوب ضد غاصبى ثرواتهم من محتلين أجانب ومحليين، ومع الانسان فى الأول والمنتهى. وظف الجواهرى موهبته على امتداد نحو سبعين عامًا لخدمة القيم والنشوات العليا، ومصالح الأمم والشعوب، وفهم دور الشعر بأنه ساحة للجمال، واعتراض دائم على القبح والشر فى السياسة والحياة، وأنه مشعل نور يهدى كل المظلومين طوقًا للمقاومة، لهذا بقى شعره، وسيبقى، مصدر إلهام، تتداوله الأجيال، دفاعًا عن محبة الحياة وأوجه بهجتها وجمالها، ومقاومة لكل صانعى القبح والظلم والاستبداد.