رؤى
قبل سنوات سافرت لأداء مناسك العمرة، وفى المدينة المنورة توسعت المدام في شراء هدايا للأولاد والأحفاد، ولكى نستكمل عملية الشراء احتجنا، كما يقولون، إلى مدد أو كمالة، وللأسف لم نأخذ معنا الفيزا الخاصة بنا، تركناها فى القاهرة لعدم ضياعها، ولسوء الحظ كنا فى أيام تعطل البنوك فى القاهرة، سألت البعض عن كيفية تلقى حوالة مالية، المرشد الخاص بالرحلة (المطوف)، كان مصريا ومقيما فى المملكة، عرض تسليمى المبلغ المطلوب، وتحويله بعد عودتى إلى القاهرة، ورفضت العرض، واقترحت تسليمه للشركة السياحية بالقاهرة وتضعه هى فى حسابه، بعدها نستلم منه المبلغ، وانتهينا إلى تسليم المبلغ إلى أحد أصدقائه فى القاهرة، وأخذ ما يعادله بالريال منه بعد ذلك، وتمسكت بعدم استلامي المبلغ منه سوى بعد اتصال صديقه وتأكيده استلام المبلغ، وقد كان، قام ابنى بتسليم المبلغ لصديق المطوف بالقاهرة، واتصلا من مكتبه، وبعدها تسلمت ما يعادله بالريال.
هذه الواقعة عادت بى خمسين سنة، خلال مرحلة الطفولة، فقد كانوا فى قريتنا يصفون أحد الأشخاص بـ«السفتجى»، وكان يحذرون من التعامل معه، وعندما تذكر سيرته، يقال: «ده سفتجى، يأكل مال النبى»، وكل ما فهمناه أيامها: أن هذ الشخص يأخذ الأموال من الناس ولا يردها، وكان أهل قريتنا يتجنبون التعامل مع السفتجى ومع الفايزجى، (كنا نكتبها وننطقها بالظاء: الفايظجى): وهو من يقرض المتعثر بفائدة.
وما أتذكره جيدا من سنوات الطفولة أننا (الأطفال) كنا نفهم جيدا معنى الفايزجى، لكن السفتجى فلم نكن نلم بمعناها جيدا، اللهم أنه فى خانة اللص أو غير الأمين. وخلال دراستي بالكلية استدعينا السفتجى وبحثنا عنها، واتضح أن السفتجى أخذت من «السفتجة» وهى كلمة فارسية، وتعنى فى الشريعة: اقتراض شخص مبلغا فى بلد وتسديده فى بلد آخر لأسباب كثيرة، منها مخاطر الطريق.
وقد كان الصحابي الجليل عبدالله بن الزبير رضي الله عنه (ت 73هـ) يأخذ من قوم بمكة دراهم، ثم يكتب بها إلى أخيه مصعب بن الزبير (ت 72هـ) في العراق ويأخذونها منه.
وأتذكر جيدا أن المشكلة التى قابلتنا ونحن نبحث عن تعريف كانت فى تحديد شخصية السفتجى، فقد اختلفنا حوله، هل هو: من يتلقى المال: يأخذ ولا يسدد، أم وكيل المتلقى: الذى لا ينفذ الوصية، أم صاحب المال: الذى يشترط تسديد المبلغ لوكيله أولا ثم يتهرب، وبالبحث ظهرت لنا شخصية رابعة ذكرها أحد الزملاء عن أهل قريته، وهى الشخص الذى يحمل المال لتسليمه من شخص فى بلد إلى آخر فى بلد أخرى، وأيامها اختار كل منا السفتجى الذى يتوافق وذاكرته وعادات قريته، والكذب خيبة، فقد حاولت أكثر من مرة أن أتذكر السفتجى الذى كان أهل قريتنا يقصدونه، ولضعف الذاكرة، ولطول السنوات، فشلت، هل تتذكرونه؟.