عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

تأملات

على المستوى الشخصى لا أدرى كيف سوّغ ضمير نيكولاى مكيافيللى (1469- 1527) له أن يذهب إلى ما ذهب إليه من نصائح وحكم للأمير فى كتابه الأشهر «الأمير» الذى يعتبر للأسف الدستور غير المنظور لكل حاكم يسير على هواه فى الحكم بعيداً عن أية قواعد أخلاقية أو إنسانية تكون مرشداً له. صحيح أن هناك كتابات أخرى مختلفة فى أدبنا المصرى والعربى الإسلامى سبقت نهج مكيافيللى فى نصح الحكام والملوك غير أن ذلك لم يكن خلواً من البعد الأخلاقى الذى بدونه يفقد أى شىء فى الدنيا مبرر وجوده، وهو الأمر الذى تفتقده نصائح مكيافيللى فينتج لنا حاكماً لا يأبه بأى مبادئ أو قيم يقوم حكمه على خداع شعبه والالتفاف على أحلامه.

ففى تراثنا المصرى القديم نجد هناك كتاب «تعاليم بتاح حوتب» وكان تأليفه نحو 2880 قبل الميلاد، وكان مؤلفه حاكماً لمنف ورئيساً للوزراء فى عهد ملك من ملوك الأسرة الخامسة، وهو لا يتناول فقط مجرد الحكم الصائب فحسب، بل أيضًا وهذا هو الأهم الحياة الصالحة.

أما فى أدبنا الإسلامى فنجد على سبيل المثال كتاب «التبر المسبوك فى نصيحة الملوك»، للإمام أبوحامد الغزالى، ألّفه فى أواخر أيامه باللغة الفارسية للسلطان محمد بن ملك شاه السلجوقى المتوفى سنة 511 هـو هو يعالج موضوعات سياسية واجتماعية جاءت فى صورة نصائح ومواعظ ووصايا أخلاقية غايتها منفعة الحاكم والسياسى وإرشاده فى حكم الرعية.

وإذا كانت الأجواء التى عاشتها إيطاليا موطن مكيافيللى خلال حياته ربما تبدو مبرراً لما ذهب إليه، فإن جانباً من طبيعة نصائحه ربما يكون مبعثها طابعه الشخصى، حيث كان كما تتفق المصادر رجل سيئ السمعة! ولذلك فإنه كلما وقع الكتاب تحت ناظرى تعاودنى نفس الحالة من الدهشة على ما أورده مؤلفه من نصائح ربما تنجح فى تحقيق أهدافها وربما لا تنجح وإن كانت فى أى الأحوال تمثل خروجاً على الطبيعة الإنسانية، رغم حقيقة أن السياسة، خاصة بين الدول، لا يحكمها فى النهاية سوى المصالح.

فمكيافيللى مثلاً يصيب المرء من أمثالى بالذهول حين تجده يرى عدم ضرورة تمتع الحاكم بالصدق والإخلاص أو الوفاء، فيقول بثقة: كل الناس تعرف أن قيام حياة الأمير على الإخلاص والصدق وليس على المكر والختل أمر محمود إلى أقصى الحدود، ومع ذلك فنحن نرى من التجربة فى زماننا أن أولئك الأمراء الذين لم يراعوا الإخلاص كثيراً وعرفوا كيف يستهوون عقول الناس بالمكر قد أنجزوا إنجازات عظيمة واستطاعوا فى النهاية أن ينتصروا على الأمراء الذين أسسوا حياتهم على النزاهة».

وهو يؤكد فى ثقة أن الحاكم الحكيم –من وجهة نظره طبعاً– لا يستطيع ولا ينبغى له أن يراعى الوفاء، إذا كان الوفاء ضد مصلحته! وفى ذات الوقت فإنه ينصح الحاكم أن يخفى هذه الطبيعة، فى سلوك هو أقرب إلى سلوك الثعلب! فالأمير يجب أن يكون أستاذاً فى الادعاء الكاذب وأستاذاً فى إخفاء ما يضمر، فالناس شديدو السذاجة ويقبلون بالضرورات الطارئة أحسن قبول حتى إن المخادع يجد دائماً من يصدقون خداعه!

ولا يرى مكيافيللى غضاضة فى أن يكون الأمير مداهنا وأن يمارس ذلك بفن فهو يجب أن يحرص على أن يبدو لمواطنيه وكأنه الرحمة مجسدة والإخلاص مجسداً والنزاهة مجسداً، والإنسانية مجسدة، والدين مجسداً. غير أنه ليس من المهم وفقاً له أن يتصف الأمير بهذه الصفات، ولكن المهم أن يبدو كذلك أمام مواطنيه.

ليس ذلك فقط بل إن مكيافيللى لا يرى أى ضير من أن يتسم أميره بالقسوة على شعبه فى سبيل الاحتفاظ بوحدة هذا الشعب وولائه وإن دعاه فى الوقت ذاته إلى التزام الحذر، وبذلك يضمن أن يكون مرهوب الجانب، دون أن يصل إلى مرتبة أن يكون مكروهاً من مواطنيه، فلا بأس بتاتاً وفقاً له أن يشتهر الأمير بالقسوة وأن يكون مرهوباً، المهم ألا يكون مكروهاً.

ورغم أن مكيافيللى يؤكد دور الدين فى المجتمع، كما يشير الدكتور لويس عوض فى معرض تناول فكره، فى دراسة له، بشكل يوحى وكأنه رجل مؤمن شديد التدين، إلا أنه يختزل الأمر فى مجرد دور الدين فى ضبط المجتمع ليس إلا.

ولا يمرر مكيافيللى نصائحه دون أن يحذر الحاكم من نفسية الشعوب، موضحاً أنها تثور لاستبدال حاكم بحاكم وطنياً كان أم أجنبياً، إذا عانت من المظالم وتوهمت أن حالها سوف يتحسن فى ظل الأمير الجديد، ولكنها لا تلبث أن تفيق من وهمها حين تكتشف أنها تسير من سيئ إلى أسوأ فتثور من جديد لطرد الحاكم الجديد.

وعلى مدى أكثر من 500 عام بعد صدور الكتاب، فإنه ما زال يمثل المرشد للكثير من الحكام ليس فقط فى الدائرة التى وجه لها مكيافيللى خطابه، ولكن فى العالم كله، غير أن تطور نظم الحكم وقيام بعضها على أسس تتوافق مع روح العصر، أثبت بؤس الكثير من فنون الحكم التى راح مكيافيللى يروج لها، التى تجاوز الزمن الكثير من مقوماتها خاصة فى تعامل الحاكم مع شعبه، وإن بقى الكثير منها قائماً فى تعامل الحكام مع الآخرين من غير شعوبهم. ورغم سطوة ما كتبه، فإن ذلك فى تقديرى الشخصى، لا يوفر له، بأى شكل الأساس للقبول والعمل به طالما مثل نوعاً من الخروج عن الفطرة الإنسانية!!

[email protected] com