عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

نحو المستقبل

استكمالا لما تناولناه في مقال الأسبوع الماضي حول الإحسان والسعادة، نشير إلى أنه كم كان سينيكا منصفا للسابقين عليه حينما قال «وعلمتنا المصادر الفلسفية أن بعض الإحسان قد يعطى على الملأ وبعضه الآخر في السر، وينبغى أن نتوسع فى الإحسان الذى يمجد تلقيه كالأوسمة والأَنْوِطَة العسكرية وأى شيء آخر يجعل التكريم علنا». إنه يعترف بالتراث الفلسفي الأخلاقي السابق عليه ونبه إلى أهمية فضيلة العطاء والسخاء والاحسان للآخرين، كما يؤكد ضرورة أن نتأسى بصور الاحسان التى قدمت للآخرين فى الماضى سواء تمت فى السر أو فى العلن.

انظر إليه وهو يؤكد ذلك ثانيا بقوله «وينبغى أن نستمر فى الإحسان الذى يعين المتلقى في وقت علته وفقره ونكبته، أو الإحسان الذى يفيده، وليس ما يجلب ترفعا للمتلقى أو ما يصنع له مكانة».

وحتى يدفع سينيكا البشر لهذه الفضيلة الجليلة فضيلة الاحسان يقول لهم عن السعادة التى ينشدونها فى كل ما يفعلون «ليست السعادة التى يستحقها البشر والإنسان الحق في حشو الجسد ولا متاعه ولا حفز الشهوات التى يسلم حين يهجرها بسكينة ويتحرر من نوازعها سواء أكانت ناجمة من صراع طموحنا الإنسانى أم من اشتياط لا يحتمل يجىء من فوق حين نؤمن بأساطير عن الأرباب ونحكم عليها بمقياس رذائلنا». إن السعادة فى نظره ليست فى الافراط فى هذه اللذات الجسدية الآنية، بل هي فى التوازن بين مطالب الجسد ومطالب الحياة الانسانية العاقلة وذلك هو ما يطلق عليه سينيكا السعادة المعتدلة. انظر إليه وهو يقول فى ذات الرسالة

«وهذا التوازن والسعادة المعتدلة التى لا تتأتى من ذاتها وهى شعور المرء بما نخطط له الآن فينسبه إلى اتقان في الربوبية والقانون الإنسانى، وهذا المرء الذى يبتهج في الحاضر لا يتكل على المستقبل، فمن يعول على شك لا يقف على أرض صلبة، والإنسان في غنى عن مقدمات مشوشة تضنى عقله، فلا يأمل شيئا ولا يرغب فى شىء، ولا يربك نفسه بما لا يمكن الوثوق فيه، ويقنع بذاته فحسب». إن السعادة عنده مفهوم شامل لا يتوقف لدى الانسان العاقل على اشباع مطالبه الحسية الآنية بل يأخذ فى الاعتبار مطالب الحاضر والمستقبل ولا ينسى أنه فى ذلك يراعي القانون الوضعي والإلهى معا. إن الانسان إذا لم يدرك ذلك جيدا فهو لن يشعر بالسعادة الحقيقية، بل على العكس من ذلك إنه سيكون من البائسين الذي قصروا فى ادراك معنى السعادة؛ إذ إن «البائس من يجد السعادة في دفتر حساب ضخم ورثه، وفى ممتلكات جمة يجرها الناس بسلاسل، وفى قطعان ماشية لا تعد ترعى المقاطعات والممالك كلها، وفى العبيد الذين يزيدون عن أفراد القبيلة، وفى المنزل الخاص الذى تزيد تكلفته على المدن الكبيرة».

وهكذا نجح سينيكا على مدار هذه الرسالة القيمة فى التأكيد على أن السعادة الحقيقية ترتبط بالعطاء والاحسان والشعور بما لذلك من أهمية فى حياة البشر، تلك الحياة التى تحاذي حياة الآلهة، فلقد قدم سينيكا فى نظراته التأملية الفلسفية عن الاحسان ما يتوافق مع التعاليم الدينية مسيحية كانت أو اسلامية فكان فيما قدمه خير برهان عقلى على أهمية مقام الاحسان فى الاخلاق الدينية. ولما كنا نعيش فترة من الانحطاط الأخلاقي والفوضى السلوكية للدرجة التي سادت فيها الأنانية المفرطة والقيم اللذية الوضيعة، فإن فى هذه الصفحات القيمة التي كتبها هذا الفيلسوف الرواقي القديم ما يجعلنا ننتبه إلى أهمية العطاء والاحسان لصلاح حال البشر جميعا ، فليس العطاء والاحسان سوى الوجه الآخر لقيم التعاون والتشارك فى الخيرات التي وهبنا الله اياها ليحيا الجميع حياة الرخاء والسعادة أيا كانت درجتهم الاجتماعية وأيا كانت الوظيفة التى يقومون بها فى المجتمع.

إن الأسلوب العربي والفلسفي الرصين الذي نقل به د. حمادة هذه الرسالة يساعد قارئها كثيرا ليس فقط على القراءة والفهم بل أيضا على الاستمتاع بما يقرأ والعمل بما يحض عليه سينيكا من قيم أخلاقية سامية  نكاد نفتقدها الآن فى حياتنا الاجتماعية عمادها العطاء والاحسان للآخرين، إذ لاشك  لدي أن فى الاحسان للآخرين احسانا للذات المحسنة بنفس القدر وربما يزيد.