رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

 

منصات القصف المتبادل بين كل الأطياف السياسية داخل مصر وخارجها تؤكد بجلاء أننا مجتمع عائد أفراده من قرون غابرة كره فيها الانسان من يختلف معه حول فكرة ما - مهما كانت بسيطة أو حتى ساذجة.. الذين يقدسون الحرية أو يدعون ذلك يقدسونها لأنفسهم ويحولونها لصنم يسجدون له رغم ايمانهم الداخلي بأن هذا الصنم لن ينطق الا بما ينطقون هم به.. الحرية ثقافة قبل أن تكون قواعد ودساتير، وستظل من أعظم الفضائل في تاريخ الانسانية.. عندما قرر الإغريق الذين ابتكروا فكرة الديمقراطية التحول من الحكم الشمولي إلى (الديمقراطية) أتوا بالفلاسفة من كل المقاطعات الإغريقية، وأمروهم بالتجول في الطرقات وتعليم الناس الفلسفة، والفلسفة عندهم ليست علما كلاميا بحتا كما يظن الكثيرون، بل هي في صميمها إعمال للعقل بغرض الوصول إلى الحقيقة..

اللحظة الراهنة التي تخنقنا ونخنقها اليوم كفيلة بأن نتعلم منها اذا رغبنا في التعلم أننا أعداء بالفطرة للحرية، وحين نرفع شعاراتها فنكون أقرب لمن طالبوا على بن أبي طالب بالالتزام بالتحكيم، رافعين مصاحفهم فوق أسنة الرماح.. المشهد برمته مضلل ولا يدل على حقيقة بقدر ما يؤكد فقداننا ما تبقى لنا من عقل.. رئيسة وزراء نيوزيلندا بعد فاجعة قتل المصلين بمسجدين في بلدها غير الاسلامي خرجت لشعبها لتقول «إنه من العار على بلدنا أن نكره من نختلف معه».. هنا تتجلى ثقافة الحرية التي لم يتجمل بها مسئول واحد في مصر عقب حادث مشابه ليقول مثل ما قالته هذه السيدة بغرض زلزلة أي أفكار خبيثة تسللت لعقول البعض ودمرت داخلهم انسانيتهم التي هي الجامع المشترك بين الناس من كل لون وجنس ودين.. في مقال له مطلع ثلاثينيات القرن الماضي كتب الدكتور طه حسين «الحضارة الإنسانية الآن أثرٌ من آثار العقل، ومظهر من مظاهر النشاط في الإحساس والشعور والتفكير. ومعنى ذلك أنها تقوم على الثقافة أكثر مما تقوم على شيءٍ آخر، فإذا استقامت الثقافة استقامت الحضارة، وإذا انحرفت الثقافة عن طريقها المعقول انحرفت معها الحضارة أيضًا، وإذا ضعفت الثقافة شاركتها الحضارة في هذا الضعف».  

في لحظتنا الراهنة فإننا كمجتمع في حالة عداء سافر للحرية كقيمة وللحرية بمفهومها الاجتماعي، وللحرية في دوائر الابداع والفكر، وللحرية في مجال المعتقد الديني. وإذا كان هذا هو حالنا فالنتيجة الطبيعية لتلك الفروض أن يستشري الجهل والفساد والعصبية والتطرف بكل صوره وعلى كل المستويات من السفح الي قمة الجبل .. الأمر الثاني أن المعارض الذي يتصور أنه يخوض معركة مقدسة ضد الاستبداد - ماذا لو انتقل هو الي موضع السلطة والسلطان - سينصب المعارضون خيمات أفكارهم وسيوجهون لمعارض الأمس وسلطان اليوم كل أسلحتهم الثقيلة وسيواجههم هو بكل ما يملك من جبروت.. كل هذا يحدث في البلدان التي لم تنل حظا من التطور في بنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. يحدث في البلدان التي تستطيع فيها فكرة مضللة يطلقها امام مسجد مغمور أن تكون أقوى من بحث علمي اشترك في اخراجه عشرة من الحاصلين على نوبل في الكيمياء والفيزياء.. المجتمع الصحي والمتمتع بأجهزة مناعة ضد العصبية والتخلف لا يحتاج فقط أن يحمي ثقافة الاعتراض بل يحتاج أن يشجعها أيضا.. واقع الحال الآن في مصر يحتاج الي عشرات من مراكز البحوث والدراسات للإجابة عن سؤال واحد - لماذا ندعي عشق الحرية وإن أتتنا كعروس يفوح عطرها دفناها في أقرب مقبرة جماعية للجهل الجماعي؟.. الثقافة السائدة والمسيطرة في مصر الآن هي ثقافة الاتهام والتنكيل والخنق التي يشارك بها الجميع ومن فوق كل المنصات - حتى الأدب والابداع دخل الي بيت الطاعة - حتى حرم الصمت يستباح بتهمة العزوف عن الكلام المباح.. يقول شيخ حارتنا الأستاذ نجيب محفوظ في مقال له بتاريخ 26 مارس 1981 (كل نوع من الحرية له شروطه وانضباطاته كي يطيب للإنسان ويصفو؛ فحرية العقيدة مشروطة بعدم الاعتداء على عقائد الآخرين، وحرية السلوك مشروطة بآداب وقيم، والحرية الاقتصادية يحدها - أو يجب أن يحدَّها - عدم الاستغلال، وهكذا وهكذا، عدا حرية الفكر، فإنني لم أستطع أن أقتنع بأنه يجب أن تحدها حدود، أو تقيدها شروط؛ ذلك أن هدفها الأول والأخير هو الحقيقة، والحقيقة لا تتجزَّأ، ولا يُغنِي بعضها عن البعض الآخر، ولا يجوز لإنسان أن يستهين بها، وهي أساس حياته وبقائه وماله).. الحقيقة التي أراها يقظا لا نائما أننا مازلنا نعيش في مساحة زمنية ما بين الشجرة المحرمة وبين من يحرم الاقتراب منها.. وفي هذه المساحة يغلب الخوف والكذب والشوق الكسيح.