رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

لم أستطع البقاء فى العراق ليوم واحد بعد انتهاء آخر يوم من امتحانات آخر عام دراسى، وكان السعدنى وقتها يزور دولة الكويت واتصل بى من هناك وأرسل لى تذكرة سفر إلى الكويت.. وإلى هناك طرت إليه ثم سافرنا بعد ذلك إلى القاهرة، وبالطبع كنت فى انتظار نتائج الامتحان ولم يعد أمامى من هدف سوى العودة إلى التسكع والسهر طوال الليل والنوم طوال النهار.. لقد انتقمت لأيام الغربة التى حرمت فيها من ليالى القاهرة الساهرة الساحرة، وقد كان أعظم سهير فى القاهرة ولا يزال حتى هذه اللحظة هو العم فرفور الكاتب الصحفى الساخر الجميل الذى يملك موهبة لو أحسن استغلالها من قبل الغير لأصبح لدينا أوسكار وايلد جديد فى هذه الأمة، فقد كان فؤاد معوض أولى من الجميع برئاسة تحرير صحيفة ساخرة.. أستطيع أن أؤكد أنه قادر من خلالها على غزو العالم العربى بأكمله ولكن العم فؤاد معوض الشهير بفرفور يملك موهبة وبنفس حجمها العظيم يملك كسلاً أعظم، وعندما اتصل بى فرفور ليسأل عنى بعد طول غياب قال بتعمل إيه يا قريبي؟! قلت أنا فى الانتظار.. فحتى هذه اللحظة لم تظهر النتائج بعد وغالباً سأتوجه إلى «صباح الخير» للعمل فيها لأنها المكان الذى حلمت طوال العمر بالارتباط به.. والغريب أن نفس الحلم راود فرفور طويلاً لكنه لم يتحقق على الإطلاق وعندها قال لى العم فؤاد.. لحد ما النتائج تطلع تعالى يا قريبى نسرح فى شوارع مصر وبالفعل التقيت بالعم فؤاد وكان خير دليل لشخصى الضعيف لإعادة التعرف بقاهرة المعز.. مع فؤاد معوض التقيت بنماذج بشرية شديدة الغرابة كان يتعلق بهم كأنهم نسيج بشرى يرتبط به برباط لا ينفصم منهم عم عباس البواب الذى خرج على المعاش وأصبح أحد معالم مقهى مغمور فى شارع رمسيس.

وكان فيلسوفاً حقيقياً عندما قدمنى له فؤاد معوض قائلاً: قريبى أكرم مشروع صحفى.. فى علم الغيب.. فضحك عم عباس وهو يقول لى كلنا ح نتساوى فى النهاية يا ابنى.. الدنيا دى ملاهى دخلوها تلاهى وفاتوها كما.. هي!! فضحك العم فؤاد وقام بتقديمه لى قائلاً: آه كما هى.. عمك الزمخشرى.

وكانت الأمثال الشعبية والزجل الشعبى هو غاية ومراد عم عباس فى الحياة، فإذا جلس فى الصباح جاء الرواد من طبقة الحرفيين من أجل شرب الشاى والاصطباحة، جلس إليهم عم عباس يستعرض أمثلته التى تتوافق مع مشاكل أو أمانى أو أحلام كل منهم، وإذا حل المساء جلس إلى الموظفين ومارس معهم نفس الدور، وفى الليل كان العم عباس يسهره كله مع شلة فؤاد معوض فيهم المطرب وفيهم المزيكاتى، وكان بعض أهل الفن يترددون على المقهى علشان خاطر فؤاد معوض، ومنهم الفنان الجميل حسن مصطفى، وكنت أتصور أننا سنسهر كل يوم فى نفس المقهى، ولكن الفرفور سحبنى من يدى وفى اليوم التالى لنجلس على مقهى الجمهورية، وكانت الأبهة تشع فى أرجاء هذا المقهى حيث رجال على المعاش شغلوا مناصب مهمة، لذلك كانوا جميعاً من عينة فلان بيه وعلان بيه، وكان هذا المقهى هو المقر الرسمى للفنان الظريف يونس شلبى، وكانت السياسة هى الشغل الشاغل لرواده، لذلك لم يكن فؤاد معوض يميل للجلوس فيه كثيراً.. واسأل ليه يا عم فؤاد.. فيجيبك: «أنا دماغى ح تتهرش من الكلام فى السياسة أكتر ما هى مهروشة أساساً.. إحنا فنانين يا قريبى مش بتوع سياسة.. السياسيين دول نصابين.. وساعة تلاقيهم هنا.. وساعة تلاقيهم فى الناحية التانية. وبيجروا ورا المصالح.. وبعدين مش ممكن ح ترضى ولا واحد من اللى قاعدين دول كل واحد منهم عامل مفكر وسياسى وزعيم وكل يوم خناقات حوالين مين اللى أحسن عبدالناصر ولا السادات بيدوروا.. على حاجات فى القرافة والسادات وعبدالناصر شبعوا موت خلاص.. لكن دول لسه قاعدين يتكلموا عليهم كأنهم ح يرجعوا أو كأنهم موجودون».. ولم يكن فرفور يميل إلى السياسة، خصوصاً أنه شاهد بأم عينيه كيف أنها مهدت الطريق إلى السجن للسعدنى الكبير ثلاث مرات فى حياته الصحفية، لذلك عشق فرفور الوسط الفنى وقرر الكتابة له وفيه، وانتشر فى الأوساط الفنية، وكان الفرفور فى الوسط الفنى مثل الفاكهة الجميع يحبه ويبحث عنه حتى لو ناله من فرفور بعض شطحاته ولسعاته، وكان فرفور شديد الارتباط بقهوة فى حى العشماوى صاحبها رجل من أصول فلسطينية كان ضخم الجثة عاشقاً لرواد المقهى القدامى ومنهم فؤاد معوض، وكان المقهى فى شارع فرعى وتعجبت كيف عرف العم فؤاد موقع هذا المقهى العجيب.. وحكى لى حكاية «تاج محل».. اندهشت فى البداية وقلت تاج محل دى فى الهند.. وتصورت أن العم فؤاد سوف يسرح بي سرحة طويلة ولكنه سرعان ما انتشلنى من أفكارى وأخذ يروى لى حكاية الشقة العجيبة التى هبط فيها الشاعر الفنان محمد حمزة عندما جاء إلى القاهرة وعرفته الأوساط الفنية بعد أن قدم للعندليب عدة أغان صارت لها شهرة واسعة فى بداية الستينيات، ولم يكن لمحمد حمزة من متوى فشغل نفسه بالبحث عن شقة واهتدى إلى شقته فى منطقة العشماوى أطلق عليها «تاج محل»، وإذا كان السلطان الهندى جاه جاهان قد بنى تاج محل وهى مقبرة شهيرة ضمت رفات محبوبته ممتاز محل فإن محمد حمزة فتح تاج محل من أجل جميع أحبائه فى الوسط الفنى الذين كانوا فى مرحلة الصياعة العظمى، حيث لا أسرة ولا عائل ولا أولاد ولا مسئوليات، وانضم إلى تاج محل فى البداية اثنان من أصدقاء حمزة هما العم صلاح السعدنى وقريبى فؤاد معوض، وكانت عبارة عن جراج أو مقبرة أيضاً ولكن للأحياء الذين ينامون طوال النهار ويسهرون طوال الليل، وأما صاحبة الشقة فكانت الفنانة مها صبرى والتى قدمت الشقة ثمناً لمحمد حمزة لقاء إحدى أغانيه.. ويحكى فؤاد معوض عن الدش فى تاج محل فيقول.. كان يا قريبى عبارة عن خرمين فى الحيطة لما تفتح الحنفية الخرمين ينزلوا ميه على الحيطة وعلشان تستحمى تقعد تحك جسمك فى الحيطة.. ما كانش فيه لا «ماكله» ولا فلوس.. فقر.. دكر والفلوس اللى كنا بنكسبها بتطير على طول، فعملنا عمك صلاح وأنا.. تنظيم أمناء الشوربة على وزن أمناء الشرطة بتوع عمك شعراوى جمعة الله يرحمه.. كنا نلف على البيوت وإذا سمعنا صوت ملاعق أو ريحة شوربة نقوم داخلين على طوال، ولم يمض كثير من الوقت إلا وهجرنا قهوة العشماوى إلى خُن أو غرزة إن شئت الدقة وراء سينما ديانا كان يدير النصبة ويقدم الطلبات إلى الزبائن الكابتن رزة كما أطلق عليه العم فؤاد، وهو رجل مسن فى الثمانين من عمره يرتدى بالطو عسكرى فى الجيش البريطانى، وهو يقدم الطلبات للزبائن حسب مزاجه فإذا كان المزاج عال العال كانت الخدمة تمام التمام وإذا كان المزاج مش ولابد يقوم بحدف أى زبون يطلب أى مشروب بأى حاجة قدامه، وكان العم فؤاد هو الزبون الوحيد المقرب من الكابتن رزة، فهو الوحيد الذى يدخل السرور إلى قلبه، ذات مساء ونحن جلوس على المقهى كان الكابتن رزة ذو الثمانين ربيعاً يتناول وجبة غداء مكونة من فول وطعمية وبتنجان مخلل ومقلى وكان يخرج أصواتاً من جوفه مرة من الأعلى ومرة من الأسفل فنظر إليه فرفور وقال آه..إدينى شوية كيماوى كده علشان نفوق.. وضحك رزة من أعماق قلبه وقام لكى يعمل واحد شاى «منه فيه» لعم فؤاد ولكن فؤاد معوض أشار أاليه بأنه يتروى وقال رزة فيه إيه؟ فأجابه فرفور.. إنت مش أكلت.. وانبسطت.. رد قائلاً.. أيوه وخبط على بطنه وقال تمام نعمة والحمد لله.. وقال فرفور.. مش الواجب إنك تتمرغ بقى شوية فى التراب.. ويعود رزة ليفشخ فمه ضاحكاً شاخراً.. وبعد فاصل طويل من الضحك الهستيرى يقول: إنت قصدك يعنى إنى حمار يا فؤاد بيه!!.. وضحك العم فؤاد ويقول مش القصد.. بس يعنى علشان عملية الهضم تبقى تمام كده.. ولكن ولأن دوام الحال من المحال فقد غضب رزة من العم فؤاد معوض وأقسم بأغلظ الأيمان بألا يقدم طلباً بعد اليوم، أما الأسباب فقد ظلت مجهولة وحبيسة جنبات الكابتن رزة حتى أخذها معه إلى قبره.. وفى سرحتنا الطويلة فى مقاهى مصر عدينا على السبتية حيث المعلمون الكبار الذين يعشقون النكتة الحاضرة لدى فؤاد معوض.. فقد كان مضحكاً متجولاً على وزن بائع متجول يحمل الفكاهة والبهجة أينما حل، وفى السبتية كان المعلمون يفرضون على فرفور أن يشرب الشاى والقهوة والمعسل على ألا يضع يده فى جيبه.. لذلك لم يكن فرفور يحب زيارة السبتية كثيراً لهذه الأسباب وأخيراً صحبنى العم فؤاد معوض إلى منطقة اكتحلت بها عيناى للمرة الأولى وهى إسطبل عنتر.. كان من رواد الأسطبل كبار النجوم فى دولة الفن والصحافة وناس صياع وناس ضايعة وناس على باب الله، ولكنى سرحت فى خلق الله المنتشرين فى المكان ، ولفت نظرى رجل مسن جسده نحيل كأنه قلم رصاص براه الزمان كان يسحب أنفاساً من الجوزة ثم يخرج الدخان على حلقات فى الهواء وهو يغنى وانتنى. انتنى.. انتنى المسمار.. وآه يا خوفى.. آه يا خوفو وآه يا خفرع من آخر المسمار آه يا عيني!! ألقيت ببصرى على رواد المكان فمنهم الذى ذهب فى تعسيلة بعيدة ومنهم الذى يملك عيوناً مفنجلة ع الآخر ولكنه لا يعيش معنا بعد أن سرح فى ملكوت الله وبمجرد أن انتهى من الوصلة يضج الأسطبل عن بكرة أبيه بالآهات وكأنهم يستمعون للست أم كلثوم.. ووسط هذه الباقة العجيبة من البشر رفع العم فؤاد صوته وكأنه يريد أن يستمع الجميع إلى ما سوف يقوله.. وقال.. هى دى مصر يا أكرم!! ونظر الجميع إلى شخصى الضعيف نظرة أحسست فيها بالخطر فهى على وزن.. هى دى مصر يا عبلة!! وسحب أحدهم ما يشبه البلطة وهو يقول إيه ده هو البيه «جاسوسى» لم يقل جاسوس ولكنه قال جاسوسى «بالياء».. بالطبع تعطلت داخلى لغة الكلام وأدركت أن هزار العم فؤاد قادنا إلى التهلكة ولكن قريبى لحق بالموقف قبل أن يتأزم وقال.. ده أكرم السعدنى ابن عمكم محمود السعدنى الصحفى.. وأنا بافرجه بعدما جه من السفر على معالم البلد.. ثم نظر إليهم نظرة فاحصة وهو يقول مش.. انتوا برضه من معالم البلد!!.. فأومأ البعض برأسه وأكد آخرون على كلام العم فؤاد.. ومضت عدة أشهر وأنا ملازم العم فؤاد كظله.. وارتاب السعدنى الكبير فى الأمر، وسألنى ذات يوم: إنت نازل رايح فين فقلت لعم فؤاد فقال ما تجيبه وتيجى لى المصطبة.. أنا عامل طاجن لحمة عجب.. هات عمك فؤاد وتعالى عند المصطبة بتاعة عمك إبراهيم نافع.. ونقلت لقريبى رغبة السعدنى الكبير ودعوته إلى الطواجن.. ورحب العم فؤاد بالعرض، اتجهنا إلى المصطبة فى شارع الملك فيصل.. واستقبل السعدنى فؤاد معوض بالمراحب الحارة والحاج إبراهيم وجلس أحدهما على يمينه والآخر على يساره.. وبعد السؤال عن الأحوال والمعايش أخرج السعدنى سيجارة وطلب من فؤاد كبريت.. فاعتذر قريبى وقال ما معيش كبريت.. فسأله السعدنى ولا ولاعة.. فقال لا والله ما يتعزش يا عم محمود.. فأعطى له السعدنى سيجارة فاعتذر وقال ما بادخنش.. ثم ناوله العم إبراهيم الشيشة فنظر فؤاد إلى الحاج إبراهيم ثم عاد وبنفس النظرة إلى السعدنى وقال هو فيه إيه يا عم محمود.. فقد هرش فؤاد معوض سر الدعوة وأدرك السعدنى أن فؤاد فهم الأمر فاقترب منه وقال.. معاك موس.. وبنفس الصوت الهامس الذى تحدث به السعدنى وبذات النبرة المباحثية قال العم فؤاد لا.. قصدك علشان الشد والتسطير ما ليش فيه برضه يا عم محمود.. فاعتدل السعدنى فى الجلسة وقال: الله أمال الواد أكرم ماشى وراك زى ضلك.. فيه إيه؟! وهنا ضحك فؤاد معوض من أعماق قلبه وفتح على الرابع وقام بإحياء ليلة من ليالى عمره أضحك فيها السعدنى كما لم يضحكه أحد من قبل ولا من بعد، وأدرك بعدها السعدنى أننى بالفعل مدمن ولكن ليس للصنف ولا مؤاخذة ولكن لشخص وخفة دم وظل فؤاد معوض ولذلك تركنى السعدنى حراً فى أن أقطر فؤاد معوض وأذهب خلفه فى كل مكان.. حتى بلغتنا نتائج الامتحان، فقد نجحت ولله الحمد وانتهت رحلة الشقاء والبؤس والأرق والمأساة التى ليس لها نظير فى الكون.. فنحن نتعلم أشياء ليس لها بالحياة علاقة من أى نوع ويخرج الطالب حفيظاً صميماً لا يفقه شيئاً على الإطلاق ولا يستطيع التفكير لأنه تعود منذ الصغر على حفظ الأشياء دون محاولة فهمها أو حتى معرفة أهمية حفظها على مستقبله.. المهم أن السعدنى أمرنى ذات مرة بالتوجه إلى العم موسى صبرى رئيس تحرير الأخبار، وبالفعل كتب لى عقداً تحت التمرين ولكنى لم أذهب إلى هناك على الإطلاق وفضلت العمل فى مجلة «صباح الخير».. وهناك بدأت رحلتى مع بلاط صاحبة الجلالة فعملت إلى جانب عدد من رؤساء التحرير كل واحد فيهم له شكل وطعم ولون وبعضهم له رائحة.. وعملت إلى جانب نبهاء وأغبياء.. ناس حرفتها الكتابة وناس يكتب لها الآخرون.

ولكن للصحافة قصة أخرى، سوف نلتقى معها فى الجزء الثانى بعون الله من مذكرات ابن الولد الشقى.. أحيانا الله وإياكم!!