رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

كان بهجت قمر شأنه شأن صلاح جاهين مؤمناً بأن الدنيا ربيع والجو بديع وأن ثوار يوليو سيأخذون مصر وشعبها إلى العلالى وربما تفوقنا فى الصناعة والزراعة والتجارة على بلاد الخواجات.. وداعبت بهجت قمر أحلام وردية بأن القادم أجمل وأن المستقبل يخبئ لمصر الخير والسعادة وكيف لا والثورة تمضى من نصر الى آخر حتى جاءت نكسة يونيو فى العام 1967، وعلى رأى عبدالمنعم مدبولى كل شىء انكشف وبنان.. فإذا بالأحلام تتحول إلى كوابيس مخيفة والمستقبل مظلم لا يستطيع أحد أن يحدد ملامحه وانهارت كل الآمال وسقطت الأقنعة وتبين بهجت كم كانت الأشياء كلها مزيفة، فكان يطلق ضحكة استنكارية تعقبها حركة إسكندرانية ويقول: قال.. إيه.. نعدى على الصحراء تخضر!! ويضحك بهجت قمر من أعماق قلبه وهو يقول الجماعة دول كانوا كدابين قوى أو يمكن محششين قوى وصنف البيكو كمان أنا عمرى ما صدقتهم لكن كنت باحاول.. شوف الحفلات بتاعة زمان فى المغنى لما كانت أم كلثوم بتغنى أو عبدالوهاب.. بص كويس على الناس بتوع الزمان ده الصورة ممكن تشم فيها ريحة البارفان والكولونيا العصر الملكى كان فيه فساد.. آه فيه فساد طيب ما كل العصور فيها فساد وفيها محسوبية وفيها ناس بتاكل بقلاوة وناس بتاكل من الزبالة.. لكن أنا اللى يهمنى مصر.. ارجع لورا شوية ح تلاقى العصر الملكى هو اللى طلع طه حسين وفيه تربى العقاد وطبعاً توفيق الحكيم وعمك نجيب محفوظ وعيه تكّون أيام العصر الملكى مش العصر بتاع الثورة ولو عاوز تتأكد من كلامى ابقى شوف، شوف لما الناس دى ح تموت.. مين اللى ح يحل مكانها»، كان بهجت تصور أن بعض جماعة يوليو نسيوا أهداف الثورة ذلك أنهم بعد توليهم الحكم فى البلاد ذهبوا إلى النسوان البيض واتجوزوهم وبعضهم كانوا من نجوم الفن.. ويؤكد بهجت كلامه بواقعة مريرة حدثت لأحدهم بعد أن استدعوا له سيارة مستشفى المجاذيب ثم توجه أحد الضباط إلى بيته من أجل الاقتران بزوجته فلم يكن هناك قانون يردع أحداً من الكبار ولا دستور يحترمه أحد وصعد أهل الثقة محل أهل الخبرة، والكارثة الأعظم أنه بعد حدوث المأساة التى أطلقوا عليها اسم الدلع «النكسة» جاء أحدهم إلى بهجت قمر وكان مكلفاً من مسئول كبير لكى يقوم بهجت بتأليف عدة أفلام تتضمن إلهاء الناس عن المصيبة التى حطت فوق رأس البلاد والعباد، ويقول بهجت قمر «هنا عملنا أفلام من نوع الأكس فى التاكس والفانلة فى المانفيلا ودخلنا فى دوامة الهلس الرهيب.. كان ماله الملك الزين أبو وردة على الخدين.. على الأقل كانت الأرض الزراعية أبعديات ملك عائلات كبيرة لا عمرها بورت الأرض ولا جرفتها لكن الثورة هبرت الأرض دى من الناس الكبار ووزعتها على ناس عمرهم ما عرفوا معنى الملكية ولا قيمتها.. كانت النتيجة إيه.. إن الأرض اتاكلت واتبورت والفلاح بنى عليها بيوت ودخل الكهرباء واتفرج على  التليفزيون وانقلبت أحوال الريف بعدما كان بيصدر الخير للمدينة بقى عبء عليها».. ولم يكن بهجت قمر يرى هذه العيوب وحدها فى الثوار، لكنه كان ينسب إليهم كل العيوب والمساوئ والمثالب، فذات يوم وهو يقرأ الجريدة.. قرأ خبراً عن نسبة التلوث فى الهواء وكيف أنها تعدت الأرقام القياسية المسموح بها فى القاهرة، فضحك ضحكة صافية وهو يقول.. الثوار بتوعك.. الله يخرب بيت أبوهم.. قلت له مالهم يا عم بهجت.. أجاب.. هم اللى لوثوا الهوا!! والحق أقول إننى لم أكن أعارض بهجت قمر أو أقف منه موقفاً معادياً ولكننى كنت أستمع إليه وأنا مستمتع بوجهة نظره لأننى كنت من محبى بهجت قمر وعشاق الاستماع إليه حتى ولو اختلفت معه فى كل ما يقول جملة وتفصيلاً.. وذات يوم حضر السعدنى صالون بهجت قمر واستمع إلى رأيه فى الثورة والثوار وقال لبهجت: إنه لولا جمال عبدالناصر لما ظهرنا على سطح الحياة لا أنت ولا أنا ولا عمك يوسف إدريس ولا عشرات من النجباء من أبناء مصر.. وكان بهجت مصراً على أن الموهبة الموجودة داخل كل هؤلاء لابد أن تنكشف ذات يوم مثلها مثل الجريمة.. وأضاف العم بهجت قائلاً للسعدنى: «بقى معقول يا عم محمود ناس تدخل الكلية يقعدوا سنتين ويتخرجوا يحكموا مصر؟!»، واندهش السعدنى لهذه الكراهية التى لم يجد ما يبررها عند بهجت قمر للثورة المصرية وقادتها التاريخيين وعلى رأسهم جمال عبدالناصر، ودخل مع بهجت قمر فى مناقشة حامية حول حرب اليمن ودور مصر العظيم فى تخليص الشعب اليمنى من حكم الإمام والأيادى البيضاء لثورة مصر فى عالمها العربى عندما انطلقت حركات التحرر من أرض مصر، لكن بهجت قمر كان يرى فى حرب اليمن أنها عملية طيش من ثوار صغار فى العمر امتلكوا ثروات هائلة لأسرة محمد على أضاعوها فيما لا طائل من ورائه.. ويتساءل بهجت عن الفارق بين عصر الاحتلال وعصر التحرر، ويرى أن المحتل أهان سيادة البلاد، لكن الثورى أهان العباد واستعبدهم، وأذلهم، ويسأل: أين هو البند السادس الذى من أجله قامت الثورة إقامة حياة ديمقراطية سليمة.. لقد أقاموا حياة بوليسية سليمة كان الأخ يخاف أخاه والابن يخشى أباه والحيطان لها ودان وكل كلمة محسوبة على صاحبها، لذلك كانت الناس تخاف ولا تعلن ما فى صدورها.. والمصيبة أن هذا النموذج انتشر فى العالم العربى فى ليبيا على العراق على سوريا.. وراودت بهجت فكرة أراد أن يكتبها للمسرح عن ولد عبقرى اقترب كثيراً من الحاكم ولمس بنفسه كيف أن الناس تتملقه وأن الشعراء ينافقونه والتجار ينقلون له أخباراً غير حقيقية عن مستوى معيشة البسطاء، والوزراء يحجبون عنه الحقائق ويصورون له الأحوال على أنها على خير ما يرام.. اهتدى هذا الولد إلى اختراع جهاز يسجل كلام الناس، لكنه لا يسجل صوتهم، ولكن يكتشف نواياهم وما يخفونه من حقائق ويقوم بعرض الجهاز على الحاكم ليترجم له حقيقة ما فى قلوب هؤلاء الناس، فيقرر الحاكم أن يقدم كل هؤلاء إلى المحاكمة، وأن يقتل المنافقين منهم والكذابين والمزورين، لكنه عندما أتى بغيرهم كانت نتائج الكشف عليهم مطابقة تماماً لسابقيهم، ولذلك قرر أن يقطع رأس صاحبنا العبقرى الذى اكتشف الحقيقة. تلك الحقيقة التى لم تعجب الحاكم وهى نفسها حقيقة بعض الناس فى شرقنا العربى السعيد.. والحق أقول إننى وبعد زيارة يتيمة للسعدنى إلى صالون بهجت قمر نصحنى بأن أنوع من زياراتى فمرة لدى بهجت وأخرى لعم محمود عودة وثالثة للأستاذ يوسف الشريف ورابعة لأحمد طوغان، ولم يصارحنى السعدنى بالهدف من وراء هذه النصيحة، لكننى أدركت أنه يخشى أن تنتقل إلىّ أفكار بهجت وأن أتشبع بها وأؤمن بها ولكن مخاوف السعدنى تبددت، خصوصاً أن موعد العودة إلى العراق قد حان من أجل مواصلة الدراسة ولم يتبق سوى سنة واحدة فقط على التخرج، لكنها كانت سنة حزينة تلك التى أمضيتها فى آخر أيامى بالعراق فبمجرد أن ذهبت لأنتظم فى أول يوم دراسى اكتشفت أن أغلب الرفاق لم يعودوا بيننا فى دنيا الأحياء وأن محرقة الحرب العراقية - الإيرانية قد طالتهم، وأول خبر جاءنى كان بخصوص أحمد عبدالسلام صديق الصبا من أيام الثانوى وهو الوحيد الذى لم يلق حتفه فى معارك الهول التى نشبت بين العراق وإيران، لكنه تعرض لحادث سير نقلوه بعدها إلى المستشفى ليخرج بعد يومين على قدميه، لكنه مات فى اليوم الثالث، وتبين أنه مات بسبب نزيف فى المخ لم يكتشفه الأطباء.. والغريب أن قاتل أحمد كان سائق سيارة مصرى طيب وغلبان جاء إلى العراق فعرضوا عليه أن ينقل البضائع من الكويت إلى العراق وفى العراق كانوا يجبرونه على الذهاب بالمواد الغذائية إلى جبهات القتال عندما صدم هذا المصرى المصدوم المهضوم الحق الولد أحمد عبدالسلام سحبوه إلى أحد أقسام الشرطة وتم وضعه فى السجن، لكن أحمد عندما خرج من المستشفى ذهب إلى القسم وتنازل عن حقه.. وهكذا كتب لهذا المواطن المصرى الغلبان أن يرى النور مرة أخرى وهو لا يعلم عن مصير أحمد شيئاً.. وقد بكيت أحمد عبدالسلام كما بكت الخنساء أخاها صخرا.. فقد كان طيب القلب على وجهه ترتسم براءة لم أعهدها من قبل فى وجوه البشر، وكان حب أحمد للمصريين بلا حدود ودائماً ما كان يردد وسط زملائه العراقيين لو لم أكن عراقياً.. لوددت أن أكون مصرياً.. وكان يقسم بأغلظ الأيمان أنه لولا مصر والمصريون لنام أهل العراق كما الفراخ عندما يحل المساء، وكنت أسأله عن السر وراء ذلك فكان يقول: العراقى ما يسوى شىء - يعنى ما يصنع شىء بعد المساء غير أنه يباوع - يتفرج - على التليفزيون وطبعاً التليفزيون ما به مسلسل ولا فيلم ولا مسرحية إلا من مصر.. وكان يدعو لمصر من أعماق قلبه ويتمنى من الله أن يمن عليه بزيارتها.. والأغرب أنه فى حديثه إلى أصدقائه كان يستخدم مصطلحات مصرية فخرج كلامه مزيجاً ما بين اللهجة المصرية والعراقية.. وقد كان أحمد من عصابة الأربعة التى سبق وأن أشرت إليها أيام المدرسة الثانوية، وقد ظلت علاقتنا متصلة على الرغم من أنه دخل جامعة أخرى غير الجامعة التى التحقت بها وكنا فى أيام الإجازة نجوب نفس الشوارع ونسترجع ذكرياتنا فيها، لكننى فجأة اكتشفت أن أحمد نفسه تحول إلى ذكرى وأن أغلب الأحباء والأصدقاء لقوا حتفهم على جبهات القتال.. واقترب منى صديقى ليث وهو يقول: الله يلعن البطن اللى شالت صاحبك - وكان يقصد صدام حسين - ولو الحرب استمرت سنتين كمان ما راح يكون فيه رجال فى العراق.. وكان كلام ليث صحيحاً، فقد ارتفعت الرايات السوداء فوق جميع بيوت العراق، فكان فى كل بيت شهيد، ولكن الشعب العراقى المغلوب على أمره كان يضحى بفلذة كبده وفى نفس الوقت يرقص ويغنى طرباً لصدام حسين، ما أعظمها من مأساة تلك التى حلت بهذا الشعب حتى أصدقاء الدراسة الثانوية جميعهم ماتوا عن بكرة أبيهم أما أصدقاء الجامعة فلم يعد منهم إلا القليل، لقد أمضيت التيرم الأول من السنة الرابعة وأنا فى حالة حداد تام لم يتبق لى من الأصدقاء سوى علاء عبداللطيف وهو زميل لى من أيام الدراسة الثانوية أيضاً، عندما ذهبت إلى بيته ذات يوم استقبلنى أبوه ورأسه وألف سيف أن أقيم لديهم فى بيتهم ولكننى تلقيت الدعوة شاكراً فقد كنت أقيم لدى أسرة عراقية طيبة جمعتنا بهم صداقة عائلية منذ زمان بعيد وهى أسرة عم أبو سعد، وكان رجلاً ضخم البنيان إذا حل المساء أمسك بزجاجة العرقى وجلس فى حديقة منزله يشاهد التليفزيون ولم يكن فى التليفزيون فى تلك الأيام غير صورة وأخبار وتنقلات ومقابلات صدام حسين، وكان أبوسعد إذا شرب اندمج مع التليفزيون فإذا شاهد صدام يخطب فى الناس بينما هؤلاء يقاطعون كلمته بالصفيق الحار والهتاف بحماس منقطع النظير.. بالروح والدم نفديك يا صدام لعن أبو سعد خاش أبوهم، وهو يقول خرب عرضكم ما تسون أى شىء غير أنكم تصفجون.. وكنت أخشى لو أن أحداً بلغت أسماعه كلمات أبوسعد ولو حدث لربما أخفوه وراء الشمس، وكنت أصارحه بأن كلماته ربما تؤدى به وبى إلى كارثة محققة فكان يقول لى: وطارق حمد العبد الله.. إيش يسوى.. إنت نسيت من هو طارق حمد العبد الله.. وكان هذا الرجل يشغل منصب أمين سر القيادة القومية للحزب، وهو منصب بالغ الخطورة وكان هذا الرجل قريباً لأولاده وهو ظهر له ولعائلته المكونة من سعد ابنه الكبير ضابط فى الحرس الجمهورى برتبة مقدم، وعماد الذى يعمل فى إحدى شعب المخابرات، وسعاد وهناء، ووسط هذه العائلة الطيبة أمضيت العام الأخير فى الدراسة بالعراق كما ذكرت من قبل، واكتشفت من خلال المقدم سعد أن الجيش العراقى دخل الحرب العراقية - الإيرانية وهو لا يملك وسائل للاتصال بين أفراده بعكس الحرس الجمهورى الذى هو أحدث من حيث التجهيزات العسكرية والتكنولوجية.. وكانت المعارك عندما تحتدم فى مكان ما وتبدو الغلبة فيها للإيرانيين كان الحرس الجمهورى يسارع للجيش من أجل إنقاذه من كارثة محققة، ونسى الناس شكل ملابسهم المدنية، وكان شبح الموت يطل بوجهه المرعب من كل مكان وتحولت حياتنا الجامعية إلى شىء أقرب إلى الجحيم، فهؤلاء الطلاب فى انتظار أن ينضموا إلى أرقام الموتى بعد أداء الامتحان مباشرة حيث يتوجب عليهم التوجه إلى الجبهة بعد أداء الامتحان.. لقد مضت السنة الدراسية بلا طعم وبلا أحداث، فقد كان الاكتئاب قد تمكن من النفوس، ولذلك فقد حرصت على أن أودع الجميع بعد أداء امتحان آخر العام وكأننى أودعهم الوداع الأخير!!