رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

نحو المستقبل

 

لقد استقر فى الوعى الإنسانى منذ مطلع العصر الحديث فى أوروبا، ضرورة الفصل بين أمور السياسة والحكم وبين الدين وعقائد البشر حكاما كانوا أو محكومين. وفى اعتقادى أن كتاب «الأمير» الذى ظهر 1515م لـ«مكيافيللى» كان نقطة البداية لعرض وتأكيد هذه القيمة الحداثية المهمة؛ فقد حاول مكيافيللى فى هذا الكتاب استبعاد أخلاقيات الحاكم وعقيدته الدينية كمعيار للحكم على اختياره ونجاحه السياسى، حيث كان شائعا فى ذلك الزمان ضرورة أن تبارك السلطة الدينية ممثلة فى الكنيسة اختيار هذا الحاكم أو ذاك، ومن ثم كانت تفرض ارادتها وتتحكم فى السلطة السياسية وكان ذلك يمثل عائقا من عوائق التقدم السياسى والاقتصادى وأداة لانتشار الفساد والاستبداد السياسى والدينى معا.

وقد تحلى مكيافيللى بشجاعة كبيرة حينما حاول فك هذا الارتباط بين ما هو دينى وما هو سياسى، مؤكدا على أن معيار تفضيل هذا الحاكم أو ذاك لا يكون بما يتمتع به من أخلاق وفضائل ولا بمقدار تدينه وممارسته للشعائر الدينية، بل بمقدار ما يستطيع تحقيقه من مطالب شعبه من تقدم اقتصادى واستقرار سياسى.

ولا يعنى ذلك أبدا أن مكيافيللى كان ضد أن يتولى الحكم شخص متدين بطبعه ويتمتع بالأخلاق والفضائل الحميدة، بل على العكس فقد يكون ذلك أحد أسس نجاحه فى الحكم واقترابه من «مثال» الحاكم المحبوب من شعبه لكن المشكلة تكمن فى السؤال التالى: ماذا لو كانت فضائله وتدينه الظاهرى تحول دون تحقيق الأهداف السياسية من استقرار ووحدة البلاد وتمنعه من تحقيق الرخاء الاقتصادى لشعبه؟! أيهما أفضل للشعب والدولة أن يوصف الحاكم بالتدين والأخلاق الطيبة ليرضى عنه أرباب السلطة الدينية أم أن يتمتع بالقوة والمهارة السياسية والإدارية التى تمكنه من إسعاد كل الشعب والحفاظ على مقدراته وتنميتها؟!

وبصورة أوضح أيهما أفضل أن يوصف الحاكم بالشجاعة، وهو يشن الحرب على جيرانه بهدف تحقيق المجد الشخصى وتوسيع رقعة ملكه أم أن يوصف بالجبن وهو يحافظ على أرواح جنوده وأموال ومقدرات وحدود دولته؟! أيهما أفضل أن يوصف الحاكم بالكرم لأنه يغدق على المقربين منه والمؤيدين له من أموال الشعب والدولة أم يوصف بالبخل وهو يحرص على تلك الأموال ولا ينفقها إلا فيما يحقق الخير والعدالة بين الجميع؟!

لقد كانت هذه التساؤلات والأمثلة هى ما طرحه مكيافيللى ليدلل على ضرورة فصل الأخلاق والدين عن السياسة وأمور الحكم. فالشعب والدولة لا يعنيهما مقدار أخلاق الحاكم ومدى تدينه بمقدر ما يعنيهما حفاظه على وحدة البلاد وتحقيق استقرارها السياسى ورخائها الاقتصادى.

إن عقيدة المرء الدينية وممارسته لشعائرها هو أمر فردى يخص علاقته بربه كما أن فضائله الأخلاقية الفردية تكسبه العلاقة الطيبة بالآخرين من أفراد مجتمعه، أما ممارسة شئون السياسة والحكم فهو أمر يخص المجتمع ككل ويمس مصالح الجميع، ولذلك ينبغى أن يكون معيار الحكم على نجاح السياسى والحاكم هو مدى قدرته على تحقيق مصالح الجميع والتعبير عن طموحاتهم وتحقيقها على أرض الواقع.

وهكذا بدأ الوعى الأوروبى يتسع حتى صار الفصل بين الدين والأخلاق من ناحية وأمور السياسة والحكم من ناحية أخرى أمرا واقعا وانتهى ذلك التقليد الكنسى الدينى، وتهافتت عقيدة الأصل الإلهى للملكية والحكم الوراثى وحل محلهما الرضا الشعبى عن الحاكم، واختياره عبر النظم الديمقراطية الحديثة التى تتيح للجميع المشاركة فى اختيار الحاكم وتداول السلطة بين الأفراد والأحزاب السياسية، ومن ثم تم التحول من الدولة الدينية أى التى كانت تدعى القداسة والأصل الإلهى للأسر الحاكمة ومرجعيتها الدينية إلى الدولة المدنية التى تتيح - رغم تنوع صور النظم السياسية ملكية كانت أو ديمقراطية، ليبرالية كانت أو اشتراكية – المشاركة السياسية لجميع مواطنيها، وتسعى لتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية بينهم دون تمييز على أساس دينى أو عرقى. وهذا هو المفهوم الحداثى للدولة وهو نفسه المفهوم الذى يمكن أن يتحقق من خلاله – عبر الدساتير والقوانين المدنية – المساواة بين الجميع والعدالة بين الجميع والإخاء بينهم دون نظر لعقيدتهم الدينية أو لأصولهم العرقية.

إن هذا المفهوم الحداثى للدولة المدنية هو الذى يرعى التعددية الدينية والثقافية بين مواطنيها، وفى ذات الوقت يحافظ على وحدة الدولة ويطلق قدرات أفرادها الإبداعية فيحققون لأنفسهم ولدولتهم التقدم والرخاء.

 

[email protected] com