رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

لا أخفى عليكم أنى بعد قرار مجلس قيادة الثورة تحولت فى نظر الناس الذين أتعامل معهم فى العراق إلى مسئول كبير.. بل وخطير أيضاً، فقد كان عميد الكلية يأتى إلىّ حيث أجلس فى الكافيتيريا ويسألنى أن أصحبه، هذا إذا سمحت وأذنت له بالصحبة، وكان دائم السؤال حول مصير السيد الوزير وزير التعليم العالى وإذا ما كان سيظل فى منصبه أم سيتغير فى التغيير الوزارى القادم.. وكنت أتظاهر بأنى عالم ببواطن الأمور والتى هى من أسرار الدولة العليا، وأن إفشاءها كما يعلم السيد العميد أمر فيه خطورة لا حد لها، ولكن الرجل كان يقسم لى بشرفه الحربى وإيمانه العميق بالسيد الرئيس القائد المناضل المهيب الركن صدام حسين أنه لن يفشى السر على الإطلاق، ووعدت الرجل بأن الإجابة عن سؤاله ستكون في غضون عدة أيام أتأكد خلالها من تشكيلة الحكومة الجديدة، وكان مصدرى الأوحد والأهم هو العم حميد سعيد الشاعر والصحفى العراقى الكبير الذى تولى تحرير جريدة الحزب «الثورة» العراقية، وهى الجريدة الرسمية المعبرة عن القيادة والحزب فى الدولة، وكان الرجل وثيق الصلة بالقصر الجمهورى وصاحب نفوذ كبير فى العراق وهو صديق للولد الشقى، وكنت أتصل به فى أى وقت، وطلبت مقابلته ذات يوم وسألته عن مصير وزير التعليم ووجدت فى كلام العم حميد سعيد ما لا يسر عدواً ولا حبيباً فى شخص الوزير، وفهمت أنه سيرتدى البيجاما قريباً ويتمتع بالجلوس فى بيته.. ونقلت للعميد المسألة ولكن بشكل مخفف فاحمر وجه الرجل وازرق وتلون بكل ألوان الطيف فقد كان محسوباً على رجال الوزير ويعنى خروج الوزير من الوزارة أنه سيفقد بدوره العمادة وربما يعود موظفاً فى ديوان الوزارة لأنه لم يكن يفقه شيئاً على الإطلاق، وكانت مبررات صعوده إلى منصبه هى صلته بالسيد الوزير وعلاقته الحميمة به، وهذه الصلة سنجدها دائماً هى المسوغ الوحيد فى بلادنا العربية للوصول إلى المناصب العليا أهل الثقة وأصحاب العلاقات الخاصة وحملة كروت التوصية هم فقط أصحاب الحق فى الوصول إلى أعلى المناصب، أما أصحاب الخبرات والعقول المستنيرة فهم فى أسفل السافلين ما داموا بعيدين عن أصحاب النفوذ لا يحظون بثقتهم الغالية.. المهم أن العميد أصدر أوامره إلى جميع العاملين والموظفين والدكاترة فى الجامعة بتلبية جميع احتياجاتى ومطالبى وتذليل أى عقبات تواجهنى أياً كانت ومهما تكلفت، وتحولت إلى فرعون صغير فى كلية الإدارة والاقتصاد وبجامعة بغداد، وبالطبع زادنى هذا الوضع انشكاحاً وغروراً أيضاً فحتى أمن الجامعة وحراسها كانوا يخشون غضبى ويعملون لى ألف حساب، ولكننى ولله الحمد استثمرت هذا الوضع العجيب لصالح الطلبة الذين وقعوا تحت براثن الأساتذة والدكاترة المعاتيه والمخبولين، وقد كان هناك منهم الكثير، لكن هذا الوضع جعلنى تحت منظار مكبر من جانب الطلبة، فكان البعض منهم يتجنب الجلوس بجانبى أو الوقوف فى طريقى باعتبار أن سكتى سالكة لمجلس قيادة الثورة، وبالتالى فإننى أمثل خطورة بالغة على أصحاب الألسنة الفالتة وهؤلاء الذين يطلقون النكات على صدام وأعوانه وحاشيته، ولم يكن هناك من متنفس لهم سوى دورات المياه يكتبون على الحوائط كل ما حوته قواميس حارة رابعة فى شخص صدام حسين وطه ياسين رمضان وعزت الدورى وميشيل عفلق، ولكن هؤلاء انضموا إلىّ عندما علموا أنى أشاركهم الرأى فيما ذهبوا إليه باستثناء أننى أحترم شخص صدام حسين باعتباره الرجل الذى وفر الحماية للولد الشقى فى مواجهة أسماك القرش فى القيادة العراقية.. وعموماً فقد مرت أيامى فى العراق هادئة.. هانئة وعشت فى كنف أسرة عراقية لا أبالغ لو قلت إنى لم أعرف للطيبة التى وجدتها لديهم مثيلاً ولا الشهامة وكرم الضيافة، فقد عرضوا علىَّ أن أقيم لديهم خصوصاً بعد عودة الأسرة والولد الشقى إلى القاهرة، وفى البداية رفضت الأمر بشدة ولكن عماد وسعد أصرا على أن أشاركهما الإقامة فى بيتهما، وكانت الأسرة مكونة بالإضافة إليهما من والدتهما الحاجة أم سعد وشقيقتين هما سعاد وهناء، وكانت سعاد تعانى من مرض شلل الأطفال وهى فتاة كبيرة يافعة ينطبق عليها المثل القائل الحلو ما يكملش، فقد كانت جميلة إلى أبعد الحدود، أما هناء فكانت شقية مشاغبة تهوى السخرية من الجميع فإذا انتهت من السخرية على خلق الله ولم تجد من تسخر منه سخرت من نفسها، مع هذه الأسرة المحافظة الطيبة الودودة قضيت أيامى فى العراق، فى الصف الثالث كنت أحضر شهرين فقط فى كل تيرم، والحمد لله كلل الله سبحانه وتعالى جهدى بالنجاح، وكان الولد الشقى يزورنى مرة أثناء إقامتى فى العراق، وذات زيارة وضعت يدى على قلبى فقد حدثت كارثة فى الجامعة وتعدى أحد الطلبة من أصدقائى العراقيين على دكتور يدرس لنا مادة التدقيق، وتحول الطالب إلى لجنة ثلاثية لفصله، وهنا جاءت وفود الطلبة تسألنى المساعدة، وتدخلت فى البداية راجياً الأستاذ أن يصفح عن الطالب ويعفو عنه ولكن الرجل تمسك بموقفه، ولكن أمام إصرارى أخطأ الدكتور فى حقى وهو يقول: إنت زمال ما تفهم!!.. وهنا جن جنونى فكلمة «زمال» بالعراقى تعنى «حمار» بالمصرى، فنظرت للرجل والشرر يتطاير من عينى وقلت والله ما «زمال» إلا أنت.. وهنا جن الرجل وقامت قيامته وأقسم بشرف أجداده أن يلقى بى خلف الشمس، وتصاعدت الأصوات واجتمع الطلبة من حولنا وأخطأ الرجل خطأ شنيعاً عندما قال: لو يصير صدام خالك ما أعوفك.. يعنى «ما ح سيبك» وعلمت بعد ذلك أنه ينتمى إلى قبيلة عظيمة الشأن تمتد حدودها فى منطقة الخليج بأكمله، وأننى وقعت فى شر أعمالى، ولكن مهما طالت وكبرت شوكة القبيلة فإن الرجل أخطأ فى حق كبير العراق صدام حسين.. وأنا أمسكت هذا الخيط وقلت إننى سأنقل للقيادة ما وقع من هذا الدكتور من خطأ فى حق الزعيم وانقلبت الأوضاع فإذا بجميع الدكاترة والأساتذة والعميد فى كلية الإدارة والاقتصاد يزحفون نحوى ويطلبون العفو والسماح وأنا رأسى وألف سيف لابد من معاقبة الدكتور.. والحق أقول إن هذه المادة كانت ثقيلة كلها أرقام وحسابات ونظريات جوفاء وكنت أنجح فيها بالتيلة، واكتشفت أن درجاتى فيها بلغت المنتهى، كيف، لا أدرى، وأن الطالب سبب المشكلة مع الدكتور إياه كان السبب فى حل مشكلتى مع المادة كما كانت السبب فى حل جميع مشكلاته مع الدكتور... فى وسط هذه الأحداث جاء السعدنى إلى العراق وأراد أن يزور الجامعة فقلت له أنا فى إجازة بمناسبة سفر جميع الطلبة والأساتذة إلى جبهات القتال.. فسحبنى السعدنى لأقيم معه فى فندق الرشيد الفخيم، وكان هناك العم العزيز محمد رضا الذى جاء إلى العراق من أجل تصوير مسلسل تليفزيونى، حيث كانت استوديوهات العراق هى الأرخص على امتداد العالم العربى.. ومع العم رضا أمضيت الأيام الثلاثة التى قضاها السعدنى فى العراق واستعدنا تلك الذكريات الرائعة لأول فرقة أنشأها المعلم رضا مع السعدنى وهى فرقة ابن البلد المسرحية التى قدمت مسرحيات «البلوبيف» و«بين النهدين» و«الأورنس»، وقبلها كانت الفرقة المسرحية التى كونها السعدنى مع العم عبدالرحمن الخميسى، والتى قدمت مسرحية «عزبة بنايوتى».. وعندما ذكر الخميسى قال السعدنى أنا لم أعرف فى حياتى راجل «صايع» عنده 80 سنة وعاد بذكرياته إلى مسرحية «عزبة بنايوتى» ويقول السعدنى: أنا أعرف الخميسى من سنة 1946 وسرحت خلفه فى أول يوم وقعت عيناى عليه عندما كان يعمل فى القدس وإذاعة الشرق وودعته بعد يومين من معرفتى به وأحسست أنى أودع صديقاً من أصدقاء العمر أو واحد قريبى، وأول فرقة مسرحية عملتها فى حياتى شاركنى فيها الخميسى، وذات يوم كنا نعرض فى دكرنس وجاء المتعهد وسلم الخميسى ثمن الحفلة مائة وخمسين جنيهاً، وكان مبلغا كبيراً جداً فى تلك الأيام فى بداية الستينيات، واكتشف الخميسى أن الرجل نصب عليه فى عشرين جنيهاً ولكن الرجل اعتذر لأن العين بصيرة والإيد قصيرة، وغاب قليلاً وعاد ومعه قفصان فراخ بلدى وطلبت من الخميسى وكنا نجلس على «المقهى» استعداداً للسفر إلى القاهرة أن يمنحنى نصيبى من الإيرادات بعد خصم أجور الممثلين.. ونظر إلىّ الخميسى متعجباً وهو يقول: إنت مش واثق فى عمك الخميسى يا سعدنى يا بني؟!.. على العموم أنا ح أقوم أفك الفلوس خد بالك إنت من الفراخ يا بنى لحد ما ارجع، وينظر السعدنى إلى المعلم رضا وهو يمصمص شفتيه ويقول: أنا زى الأهبل قعدت منتظر الخميسى وقلت ما هو مش معقول ها يسيب الفراخ ويمشى.. أتاريه سافر وأنا قاعد مستنيه لحد النهاردة!!

وضحك العم رضا وهو يقول أنا فى حياتى ما سمعتش نوادر عن راجل زى الراجل ده. ويأتى الدور على السعدنى ليضحك من أعماق القلب ويقول: عمك الخميسى ده لما تعاشره تلاقى فيه ممثل وكاتب ومخرج ومدير أعمال ومنتج وموسيقار.. وهنا اندهش المعلم رضا وهو يقول: كان يؤلف موسيقي؟ ويهز السعدنى رأسه: أمال.. على أسطوانتين واحدة سماها على الزعيم الأفريقى العظيم لومومبا والثانية شارع الهرم.. فى يوم عملت عزومة حضرها عمك يوسف السباعى وكامل الشناوى وزكريا الحجاوى ويوسف إدريس ومصطفى محمود و«شوية» فنانين على مثقفين على أدباء على صحفيين، وقلت للخميسى عاوزين نسمع بقى أسطوانة من بتوعك.. تحب نسمع أنهى أسطوانة فيهم يا عم خميسى.. فأجاب على الفور وكأنه القائد مونتجمرى يصدر أوامره إلى عسكرى فى الجيش الإنجليزى أسطوانة شارع الهرم يا ابنى.. وبالفعل قمت وحملت الأسطوانة ووضعتها وأنصت الجميع إلى الموسيقى ولكننى قطعت عليهم أسماعهم وقلت للخميسى يا ريت يا عم خميسى تشرح لنا مع المزيكا علشان فيه ناس هنا مش بتفهم لغة الموسيقى.. فهز الخميسى رأسه وقال: هذه الموسيقى الحانية الرقيقة الناعمة يا بنى هى حالة الهدوء الذى يسيطر على شارع الأهرام بعد أذان المغرب حيث عاد الناس من أعمالهم إلى بيوتهم، وأما هذه الجلبة الفجائية والصوت الصاعد فيعلن قدوم الليل الذى أسدل ستاره على وجه الحياة فى الشارع فيتحول إلى الصخب حيث رواد شارع الهرم يتجهون لقضاء السهرات الحمراء، وهذه النغمات الصاخبة المتداخلة الراقصة تعبر عن حالة الكباريهات المتناثرة حول جانبى الشارع فى انتظار الرواد من مختلف البلاد العربية.. وفجأة يرفع الخميسى يده: هل تسمعون هذا الصوت الذى خفقت له قلوبكم.. فيهز الجميع رؤوسهم بالإيجاب.. ويقول الخميسى إنهم رواد شارع الهرم وقد عبروا النفق وفى عبور النفق تخفق القلوب عند المنحدر النازل ثم هذا الصوت المتعالى أنهم يصعدون صعدة النفق وتنتهى الأسطوانة بنغمة حالمة تنتهى بطلوع شمس الشموسة وخروج رواد الشارع وهم فى حالة من النشوة.. ويصفق الجميع للخميسى ولكن السعدنى يقف ليقول للخميسى أمام مشجعيه من مثقفى وكتاب وأدباء وصحفيى مصر..

بس «علىَّ الطلاق بالتلاتة» يا عم خميسى ده أسطوانة لومومبا!!

ويضحك كل الحضور بينما يقف الخميسى لاعناً «سنسفيل» جدود السعدنى ويسأل المعلم رضا عن سر غياب الخميسى عن بغداد فيقول: إن الخميسى كان على العين والراس هنا فى بغداد محبوباً من الجميع احتفلوا به كما لم يحتفلوا بأحد من قبل ولا من بعد ولكنهم فجأة غضبوا عليه ولم يعد أحد يرغب فى لقائه.. وهنا أبدى المعلم رضا دهشته.. فلماذا حدث هذا الانقلاب؟!.. ولأن السعدنى عنده الخبر اليقين فقد اقترب من المعلم رضا وهو يكاد يهمس حتى لا يسمعه أحد وقال: عمك صدام أهدى للخميسى سيارة اسمها «لادا» أو «فيات 125» لا أذكر وعمك الخميسى ركبها شهرين ثم باعها بعد ذلك بمبلغ كويس قوى وسافر بالقرشين واتمتع.. ويعود للمعلم رضا يواصل الأسئلة فيقول: طيب وده يزعل حد فى حاجة؟!.. ويتهكم السعدنى على سؤال المعلم ويقول: هنا فى العراق اللى ياخد شعرة هدية من صدام حسين يفضل محافظ عليها زى عيل من عياله.. ولأنه باع هدية صدام الجماعة هنا زعلوا منه جداً!!

وبالطبع علم السعدنى هذه المعلومة من أحد المسئولين فى العراق عندما أبدى السعدنى استغرابه لكون الخميسى الرجل الكبير القامة والمقام مطروداً من القاهرة وغير مرغوب فى إقامته بالعراق.. فحكى له المسئول إياه الحكاية.. ولأن السعدنى كان شديد الثقة والاحترام للمسئول إياه فقد قال له يعنى هى هدية من الـ «....» فقال له المسئول هنا فى العراق صدام أكبر من الـ «.....» فقال السعدنى أستغفر الله العظيم، فنصح المسئول السعدنى أن يخفض من صوته لأن العراق كله آذان صاغية لكل حرف وكل كلمة.. وهنا صمت المعلم رضا هو الآخر عن الكلام.. وانتهت صحبتنا الرائعة وانتهت أزمتى مع الدكتور إياه على خير ومضت الأسابيع بعد ذلك ثقيلة جداً حتى انتهيت من التيرم الأول وحققت نتيجة طيبة ونجحت فى كل العلوم بتقدير جيد، وحمدت الله على ذلك وعدت فى أول طائرة متجهة إلى القاهرة للتسكع خلال إجازة نصف العام والاستمتاع بصحبة السعدنى الكبير محمود والسعدنى المتوسط صلاح، ولا أخفى عليكم إن كنت أحمد الله وأشكر فضله فى أنى جئت إلى الدنيا وعندى هذا الأب الذى يحسدنى عليه خلق الله جميعاً والعم الذى لو قدر لى أن أختار عماً لى لما اخترت عماً غيره!!