رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

عندما أدرك السعدنى أن مسألة العودة إلى مسقط الرأس ربما تطول قليلاً بعث فى طلب صديقه الحاج ابراهيم نافع الفلاح الأشهرفى الجيزة وهو صديق عمر السعدنى وتوءم روحه، وأرسل السعدنى للحاج ابراهيم تذاكر السفر وتحدد موعد حضوره، وعندما علم العم شريف كمال بالأمر طلب من أقاربه أن يذهبوا الى الحاج ابراهيم ويرسلوا معه فراخ بلدى وديك رومى وبط وأوز، وانتظرنا قدوم الحاج ابراهيم فى اليوم الموعود للوصول لكنه تأخر كثيراً داخل المطار.. فقد جاء معه بطاجن غريب الشأن لم أر له مثيلاً من قبل، كن حجمه كبيراً لدرجة مدهشة ولافتة للنظر وتبين أن المسئولين بالمطار لم يفهموا معنى هذا الطاجن ولا وظيفته لذلك أخذوه على أجهزة الكشف عن المتفجرات وخضع لاختبارات عديدة.. هنا أسقط فى يد العم شريف وظن أن الفراخ والبط والأوز هى سبب تأخير عم ابراهيم.. وبالفعل كانت هذه الأشياء من ضمن أسباب احتجازه لفترة طويلة وطلبوا منه أن يخلع الجلباب البلدي الذي يرتديه فإذا به يلبس تحتح جلبابا اخر فطلبوا منهة أن يخلعه فإذا بصديرى محكم الاغلاق بعشرات الزارير..قال أحدهم هل ترتدي قميصا واقيا من الرصاص؟ ضحك العم إبراهيم وهو يقول له ده بعيد عنك واقى من الإنفلونزا والالتهاب الرئوى وهو ده كمان لبس أولاد البلد وعلى فكرة يا جماعة أنا مش إرهابى ولا حاجة أنا جاى الشارقة علشان أزور عم محمود السعدنى الصحفى ومعايا شوية أكل مصرى نفسه فيهم، ملوخية على بامية على شوية بط ووز وفراخ.. وبالطبع صادروا كل شىء وتركوا له الطاجن، ولم يكتشفوا ان العم ابراهيم فى شنطة يده كان ممسكا بخروف صعيدى لبانى دبحه خصيصا لصديق العمر من أجل أن يصنع له الطاجن الذى يعشقه.. وأخيرا خرج عم ابراهيم من المطار واتجهنا الى المنزل، فاذا بلقاء نادر يجمع الصديقين بعد أن ظنا كل الظن الا تلاقيا، فتح العم ابراهيم ذراعيه وصنع السعدنى الشىء نفسه وارتمى السعدنى فى أحضان العم ابراهيم وعندما ضم الحاج ابراهيم ذراعيه وجدت أن السعدنى بتكوينه الضعيف اختفى فى أحضان العم ابراهيم الفارع الطول الضخم البنيان ودخلا معاً فى نوبات ضحك هيستيرى، تحول بعد قليل الى بكاء، ثم جلسا على الأرض معاً ولمدة ثلاثة أيام بلياليها لم ينم أى منهما، الكلام متواصل عن الجيزة وناسها وأهلها والتغيرات التى حدثت للناس والانفتاح وما جرىه على نفوس هؤلاء خصوصاً الذين كانوا اشتراكيين جدا فأصبحوا مع السادات انفتاحيين على الآخر، وفى اليوم الثالث  التعب من الطرفين فاستسلما لنوبة نوم عميق امتدت الى يوم بتمامه وكماله، ومن  خلال طاجن عم ابراهيم اجتمع الشامى على المغربى وجاء عم النشامى صاحب السوبر ماركت وشاركنا فى اعداد الطعام وأيضاً فى التهامه، فقد كان ذواقة للأكلات البلدية وأحب ابراهيم نافع كأنه يعرفه منذ عشرات السنين، وجاءت وفود الفنانين وعلى رأسهم ابراهيم عبدالرازق الذى عشق طواجن ابراهيم نافع وصارحه بأنه لم يأكل فى حياته أطيب من هذه الأكلة التى كان يصنعها العم ابراهيم، وحكى له كيف أنه أى ابراهيم عبدالرازق ـ كان لاعباً فى الفريق وبالتحديد حارساً لمرمى الفريق، وكان رئيس الفريق اسمه أبوفراخ، فقد كان تاجر طيور أو هكذا أطلق عليه ابراهيم عبدالرازق.. وبالفعل وافق ابراهيم عبدالرازق على العرض وفى أول مباراة رسمية لفريق المنصورة كان أبوفراخ المشجع الأول للفريق والممول الرئيسى له يقف خلف المرمى يشجع ابراهيم ويؤازره ويعده بزيادة عدد الفراخ، ولكن مرمى ابراهيم عبدالرازق منى بسبعة أهداف وانهزم الفريق هزيمة نكراء وعندما جاء موعد الحساب رفض أبوفراخ أن يمنح ابراهيم عبدالرازق ما اتفقا عليه وهو يقول له: ده انت دخل فيك 7 أجوان يعنى خسارة فيك كتكوت.. ولا حتى بيضة واحدة.. فقال له ابراهيم عبدالرازق.. وماذا أفعل فلم يكن هناك دفاع ولا خط وسط ولا مهاجمين الكل كانوا نايمين فى العسل وانا واجهت الفريق الثانى بمفردى.. وبعدين يا أخى احمد ربنا انهم سبع شوطات ما دخلوش«8» أجوان دخلوا سبعة بس.. وهنا دخل أبوفراخ فى حسبة برما ولم يفهم ما يقصد ابراهيم عبدالرازق الذى كان يسخر من الرجل فدفع ما اتفقا عليه من فراخ ولكنها كانت النهاية مع فريق الكورة فى المنصورة الاتجاه الى القاهرة وبعد ذلك للتمثيل.. ولأن ابراهيم عبدالرازق كان هو الآخر ابن بلد وفلاحاً أصيلا فقد درس شخصية ابراهيم نافع جيدا واستعار تفاصيل  كثيرة فى ملبسه ومأكله وطريقة كلامه وحكمته واستثمرها فى أعمال فنية.. وحزن ابراهيم عبدالرازق  حزن غرائب الإبل عندما غادر الحاج ابراهيم نافع الشارقة عائدا الى القاهرة بعد ان تلقى الولد الشقى مكالمة هاتفية من السكرتير الصحفى للرئيس صدام  حسين صباح سلمان يدعوه فيها الى العودة للعراق لأمر مهم ومقابلة الرئيس صدام على وجه السرعة أسعدتنى هذه المكالمة، ولكنها تسببت للعم شريف فى حالة نكد أزلى، فقد جاء للشارقة من اجل تعظيم المساحات الخضراء فى إمارة الشارقة وزيادة النماء فيها، والحق أقول إن العم شريف كان رجلاً شديد الطيبة أحلامه بسيطة وهى ـ أى أحلامه- أشد طيبة منه، وهو ودود الى أقصى درجة ليست له أى أطماع فى الحياة سوى بيت وسيارة وثلاجة يملأها باللحوم الحمراء والبيضاء، وفى الشارقة بدأت الحياة تبتسم له فقد ضمن العمل فى البلدية كمهندس، ولأنه كان قريباً الى نجوم الوسط الفنى فقد كان دائم الزيارة لهم فى استديوهات عجمان وقد عرضوا عليه العمل فى المسلسلات التى يصورونها، وكان موقف العم شريف غريباً فقد رحب على الفور بالعمل كممثل فى الأعمال التى تصور فى عجمان وتعرض فى تليفزيونات أبوظبى والشارقة ودبى وبقية الإمارات، وانشغل العم شريف بالتمثيل وبدأت أدواره فى الاتساع لكن هذا التوسع كان على حساب الخضرة والنماء والهندسة والزراعة فى شوارع وساحات وميادين الشارقة وبالطبع كانت الحرارة رهيبة فى الصيف والرطوبة غير محتملة، وفى الشتاء كان الجو أشبه بالجنة ، ولذلك فقد كان العم شريف يدخل فى سبات صيفى أثناء الحر ويدخل الى الاستديوهات فى الشتاء، وهكذا لم يجد من الوقت ما يكفى لمتابعة الأشجار والنباتات والزهور والنخيل التى كانت فى عهدته، وارتطبت احلام العم شريف بأرض الواقع المرير عندما تم تغيير رئيس البلدة فذهب المصرى الذى  يعلم أقدار الناس ويعرف العم شريف تمام المعرفة ويعشق حديثه الوردى وجاء رجل طيب من السودان الشقيق، وكان الحر بالنسبة للشقيق السودانى هو لعبته فكان يلف ويدور كما النحلة فى عز النقرة ولا تلحظ حبة عرق واحدة على جبينه، فقد  كان جو السودان أقسى فى حرارته من جو الامارات لذلك فقد اعتبر نفسه فى نزهة صيفية لطيفة وفتش وبصر كثيراً ش ان الزراعات تبددت بقدرة قادر وأن الحدائق الغناء تحولت الى خرابات لا تجد حتى من شدة الفقر غربان تنعق بها، وأن الأزهار التى كانت  يوما ما تزين الميادين الرئيسية دبلت وأصبحت فى خبر كان، وأن الطرقات التى زينها اللون الأخضر تعرضت للتصحر واكتست باللون الأصفر، فقرر الرجل أن يبحث الأمر، اكتشف ان البعض ومنهم العم شريف هربوا من الحرارة واكتووا بنارها، فقرر أن يتخلص منهم ولكنه لم يستطع أن ينال من العم شريف اثناء وجود السعدنى فى الشارقة، وزاد غيظه انه كان يشاهده كل مساء فى عدة مسلسلات على محطات دبى وأبوظبى، ولذلك جاء خبر عودة السعدنى الى العراق كالصاعقة على العم شريف.. فسوف يفقد الظهر الذى استند اليه والمصطبة التى جمعت كل المصريين فى الشارقة والحكايات السعدنية والنوادر التى ليس لها مثيل سوى لدى السعدنى الكبير، وشعر الجميع ان احد اسباب البهجة فى طريقه لمغادرة الشارقة، وأن الجمع سوف يتبدد حتى صاحب السوبر ماركت عمم النشامى حزن حزن غرائب الابل عندما علم بسفر السعدنى وأصر على توديعه  حتى باب المطار ومعه يسرى ندى والعم شريف وكباتن الكرة احمد رفعت ويكن حسين، ولكن دهشة السعدنى كانت عظيمة عندما شاهد بين جموع المودعين ولدا يركب سيارة كانت فى الاصل كوميدينو حولها صاحبها الى سيارة كيف لا أدرى.. ان الولد الهندى الذى عمل لدى السعدنى طوال اقامته فى الشارقة وكانت هذه الفترة كفيلة لأن يتعلق به هذا الهندى الطيب ويتعلم منه.. لقد وقف الولد الهندى في المطار وهو يمد يده محتضنا السعدنى ويقول له.. انه سوف يتذكره دائماً وسوف يصنع الطواجن بالشطة من اجل خاطره وانه فى هذه الفترة التى عمل فيها الى جانبه شعر ان اباه قد عاد الى الحياة كما يعتقد بعض الهنود فى تناسخ الارواح فى شخص محمود السعدنى.. وضرب الولد للسعدنى تعظيم سلام على طريقة حكمدار القاهرة الذى كان فى استقبال نهرو وقال له.. يا عم محمود.. نوم أوردو جانتا!!

وكانت دهشتى عظيمة بتأثر هذا الولد بالسعدنى وبتعاطف السعدنى معه، ولكننى بعد فترة اكتشفت ذلك السر الذى جعل السعدنى يتمسك بالولد الهندى ولماذا دس له فى جيبه فى اليوم الأخير مبلغا من المال، فقد كان الولد الغلبان يعول اسرته بأكملها لم يكن يملك حتى ذكرة للسفر ولا يدرى شيئاً عن كيفية القدوم الى دولة الامارات ولم يكن لديه جواز للسفر، ولذلك فقد جاء الى الدولة من بلاده فى مركب تنقل البضائع الهندية البخور منها على وجه الخصوص، ونام فى وسط البضاعة قبل دخول المركب الى ميناء ابوظبى وظل يتنقل بين الامارات السبع  حتى رست مراكبه لدى السعدنى، فحكى له حكايته من طقطق لسلامو عليكو، وتأثر السعدنى بحكاية الولد الهندى الذي يعول «11» أخاً واختا بالاضافة الى والدته فقد مات الأب فى حادث تصادم قطارين، ولانه الابن البكر فقرر ان يضحى بمستقبله فى الدراسة من اجل تعليم بقية الاخوة والاخوات ولذلك لم يكن الولد الهندى يفضل الخروج خارج المنزل كان لديه اصدقاء من باكستان والهند، ولم يكن يتعامل مع البنوك ولكنه يرسل اموالا لاسرته عن طريق الاصدقاء المسافرين بين الامارات  والهند وعندما ذهب الولد الى امارة أبوظبى فى البداية وجد أن الحياة غالية الثمن ومر بالامارة الأكثر ثراء دبى فأدرك انها لم تخلق له كما انه لم يخلق لها، وفى الشارقة وجد بحبوبة العيش وتسامحا من قبل اهلها بلا حدود واماكن لاقامة بسطاء واسواقاً لخدمتهم واماكان ترفيه يمكن لامثاله من الغلابة والفقراء والمساكين ان يقضوا فيها أوقاتا سعيدة، لذلك قرر هذا الولد الهندى الفقير ان يقيم فى هذه الإمارة، ولا استطيع ان اصف مدى سعادة السعدنى لأن الاقدار قادت هذا الولد الخفيف الظل للعمل لديه، فقد كان السعدنى يشعر انه مسئول ليس عن هذا الولد وحده ولكن الاحد عشر فرداً الذين يعولهم فى الهند.. كاد الولد الهندى يفقد صوابه عندما ودع السعدنى فى المطار وكأنه طفل صغير فصلوه عن أهله وذرف الولد الدموع وسط دهشة الحاضرين.. فقد كان السعدنى رؤوفا بأحواله  متعاطفاً معه مهتماً باحواله شأنه فى ذلك شأن البسطاء الذين صادفوه فى رحلة الحياة، فكان دوما منجذباً اليهم مستمعاً لحكاويهم مستمتعا برواياتهم لسبب بسيط للغاية وهو انه كان واحداً منهم.. وهكذا كتب للسعدنى ان يعود الى الشقاء وحرقة الاعصاب الى بلاده «الرافضين» كما كان يسمى بلاد الرافدين لان فيها اثنين من كبار المسئولين  جميع طلباتك لديهما مرفوضة قبل أن تنطلق بها او تفتح فمك، فيكفى ان يكون صاحب المصلحة او الطلب هو محمود السعدنى ساعتها سيكون الرد جاهزاً وحاضراً وهو: لا ومن غير ليه.. اما المسئولان اياهما فكانا طه ياسين رمضان وطارق عزيز ألف رحمة ونور عليهما.

المهم ان السعدنى فى الشارقة منح لجهازه العصبى ولعدة أشهر اجازة وهدنة من اجل الاستعداد لما هو قادم من معارك سواء على الساحة العراقية التى امتلأت بالأعداء أو على أرض الوطن الذى ظن السعدنى ان عينه ربما لن تكتحل بترابه حتى بعد ان تغيرت الأوضاع وتبدلت الرؤوس الكبيرة.. لقد ظل السعدنى شارد الذهن فى الطائرة لا يدرى ما ينتظره فى المطار ولكن كل الموظفين يعشقونه  من خلال كتاباته فى مجلة «ألف باء» العراقية ولذلك لم يكن فى حاجة الى مساعدة من أحد، وأنهينا اجراءات الدخول ومن بينها ورقة مطلوب منك ان تملأ بياناتها منها ان تذكر اسم الكفيل فكان السعدنى يكتب فى هذه الخانة اسم الكفيل ـ الشعب العراقى.. خرجنا من المطار وركبنا سيارة التاكسى الى حيث المنزل وفى اليوم التالى توجهت الى الجامعة لأجد اننى تم شطبى من السنة الثالثة بكلية الادارة والاقتصاد، وتقرر ان أعيد العام الدراسي ولم يحزننى فى الأمر شىء سوى أننى سأفقد ضجة الاصدقاء الأعزاء علاء حسين الكويتى والذى تم استغلاله بعد، ذلك الاستغلال الاسوأ عندما غزا صدام حسين الكويت وامسكوا بعلاء الذى تزوج بعراقية من البصرة واعتقلوا أفراد أسرته جميعاً لاجباره على قبول منصب محافظ الكويت التى اطلقوا عليها المحافظة الـ19 والى جانب علاء الكويتى كان هناك كمال وصفى الفلسطينى وعلاء عبداللطيف العراقى وكمال جعفر اليمنى.. وأما بالنسبة للولد الشقى قابله المقدم ارشد وهو ضابط عراقى رفيع المستوى فهو الباور الخاص بصدام حسين وقال له ان احدا فى العراق لا يستطيع أن يؤذى السعدنى أياً كان هذا الأحد، قابل السعدنى الرئيس صدام فى اللقاء الأخير عندما قال له ان كل انسان لابد ان يعود الى وطنه فى نهاية المطاف وان من حسن حظ السعدنى ان الرئيسى الجديد فى مصر رجل موضوعى وليس عدوانيا، فقد كان صدام حسين يعرف الرئيس مبارك وتجمعه به صداقة عندما كان فى منصب نائب الرئيس.. وشكر السعدنى الرئيس صدام على حسن استضافة الشعب العراقى له ولأسرته واستأذن فى العودة الى القاهرة فى أى وقت لأنه فى انتظار مكالمة هاتفية قد تأتيه من القاهرة دون سابق انذار وأنهى صدام اللقاء قائلاً إن السعدني هو ابن مصر وأيضاً ابن العراق وان هذا البلد سيظل مفتوحاً على الدوام له فى أى وقت يشاء.. وانتهى اللقاء بأخذ بعض الصور التذكارية ومنح صدام السعدنى سيجار كيوهيبا هو بالتأكيد يختلف تماماً عن ذلك السيجار الذى أخذه من الصحفى إياه يوم قابل نهرو ولذلك ظل محتفظاً به حتى تعرض للعطب على يدى حفيده الصغير أكرم ابن هالة.. وانتظرت فى العراق لعدة أشهر لا أصنع شيئاً سوى القراءة ومرافقة الولد الشقى حتى جاء الفرج وتلقى مكالمة هاتفية من اللواء حسن ابوباشا يطلب اليه الاستعداد للحضور الى القاهرة وانفرجت أسارير السعدنى ولكن عقبة وحيدة وقفت امام عودتنا وهى انتهاء السنة الدراسية التى لم يتبق لها سوى شهرين تقريباً، وبالفعل وبعد انقضاء العام الدراسى قرر السعدنى أن ننزل الى القاهرة على دفعات فقد كانت له فلسفة خاصة به في ركوب الطائرات وهى عدم  جمع البيض كله فى سلة واحدة أو عدم وضع العائلة كلها فى طائرة واحدة لذلك اتجهنا للعودة اولا هالة وأمل وهبة ومن بعدهن حنان وأنا ثم غادر السعدنى والحاجة ام اكرم بالسيارة الكابريس الشفروليه الى الكويت وترك سيارته هناك فى عهدة صديق عمره الحاج سعود العمر الرجل الكويتى الطيب وابنه أحمد وكان طفلاً صغيراً وغادر السعدنى بالطائرة متجهاً الى القاهرة وكان ذلك فى العام 1982 وكنا فى انتظاره صلاح السعدنى وشخصى الضعيف ولم أكن أتصور ان السعدنى سيخرج من المطار الى منزلنا المطل على شاطىء النيل بالجيزة وقد سبق عودة السعدنى الى القاهرة اتصال هاتفى بين السعدنى واللواء حسن فؤاد علام الذى أخبر السعدنى بأنه اخذ الضوء من الوزير بحل مشكلة السعدنى نهائياً وانه سيكون بنفسه فى انتظاره فى المطار وهنا يسأل السعدنى اللواء علام وان شاء الله لما حأرجع.. حأرجع على أبوزعبل ولا ع القناطر.. وهو يضحك أجابه فؤاد علام.. لا.. المسألة دى متروكة لاختيارك يا عم محمود ولو أن هناك سجون تانية أحسن بكثير فضحك السعدنى بشدة وكان أول ما فعله السعدنى استعداداً للعودة الى القاهرة ان طلب من الرئيس السورى الاسبق امين الحافظ ان يقبل هدية عبارة عن مسدس كان قد منحه اياه الرئيس صدام حسين بعد ان تعرض السعدنى ذات يوم فى بغداد لحادث غريب حيث حاول احد المعتوهين اقتحام منزلنا فى تمام الساعة الثالثة صباحاً ولكنه لحسن الحظ فشل فى مسعاه.. وقبل أمين الحافظ مسدس السعدنى متضرراً لانه فى كل عام يتلقى هدايا مماثلة من الرئيس العراقى فأصبح لديه ترسانة اسلحة متكاملة ولم يكن حمل السلاح فى بغداد يحتاج الى ترخيص ولكن اذا قام أى مسئول بمنحك سلاحاً يصبح سلاحك مرخصاً. المهم ان السعدنى عاد الى أرض الوطن وكنا فى انتظاره فى ساحة الاستقبال ولكنه لم يأت ولم يكن الموبايل قد اخترعوه فى تلك الأيام لذلك فقد جاء ضابط صغير فى السن واقترب من العم صلاح وقال ان الاستاذ محمود برفقة اللواء علام فى مكان اخر.. ولعب الفأر فى عبنا جميعاً ولكننا عندما اتجهنا الى ذلك المكان مع الضابط وجدنا السعدنى يخرج من قاعة كبار الزوار متجهاً الى الخارج وكنت أظن اننى أحلم فكيف بالله عليكم وبعد هذا الكم من ألاعيب السعدنى وشقاوته ومشاغباتة لنظام حكم الرئيس السادات يعود ومن قاعة كبار الزوار ويستقبله احد كبار المسئولين فى امن الدولة ويخرج متمشياً فى الطريق وسط الناس. لقد ركبنى الذهول الى اقصى مدى ممكن ولكن اخرجنى من هذا الوضع ان وضع احمد السعدنى يده على صلعة السعدني الكبير وهو مندهش وقال: هى راسك كده متقطعة ليه؟! ويعيد السؤال.. مين اللى قطعوهالك؟ قال السعدنى: القطة يا ابنى قطعتها لى منها لله، فعاد احمد ليسأل: فين القطة دى؟ فنظرت الى احمد وقلت: لما تكبر شوية وتقرأ كتب عمك محمود ح تعرف هى مين القطة اللى عملت كده.

واتجهنا الى منزلنا فى الجيزة غير مصدقين ما يحدث. ها هى سنوات الغربة والشقاء والألم والأحزان والفراق والخوف.. الخوف حتى من الموت فى بلاد الآخرين.. كل هذا كتبت له نهاية سعيدة بالعودة الى أرض الوطن.. كنت أرمق السعدنى من بعيد وهو يركب الى جوار العم صلاح فى سيارته الفولفو الخضراء وكان يشم الهواء بطريقة عجيبة كأنه يعيد تذوق نسيم الهواء والأرض المصرية ويريد ان يشبع صدره وحواسه منه كانت عيناه تدوران فى كل مكان وكأنه يحتضن بنظراته الأمكنة وان كان السعدنى قليل البكاء فالدمع لديه عزيز كما قلت ولكن عينيه امتلأتا بالدموع وأسمعه يترحم بصوت خفيض على أمه التى ذهبت الى رحاب الله وهو فى الغربة محروماً من الوقوف على قبرها أو أخذ واجب العزاء فيها.. وما إن وصںا إلى منزلنا حتى وقف السعدنى أمام المنزل متجهاً ببصره ناحية النيل متأملاً للحظات المكان الذى عاش فيه لعشرات السنين وحرم منه لعشر سنوات بالتمام والكمال وذهب فى سرحة طويلة تعدت حدود المكان وربما الزمان قبل أن يعود ويدخل لمنزله ليواجه الجحافل التى كانت فى انتظاره، تبارك بعودته الميمونة الى معشوقته الجيزة.. صحيح.. ما أحلى الرجوع اليها.