رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

فى الشارقة أيضاً، كانت الطقوس السعدنية، كما عهدتها دائماً.. الشقة الطويلة العريضة المؤثثة بأحدث غرف النوم والصالونات وكل شىء ليزم البنى آدم من الألف إلى الياء تمام التمام وكنبة السعدنى تتصدر غرفة المعيشة حيث يضع أمامها تليفزيوناً عريض الشاشة فاقع الألوان.. وبالطبع كان السعدنى ينام ويأكل ويكتب ويستقبل ضيوفه وهو جالس على الكنبة التى كان يسميها العرش.. ومن أدوات هذا العرش كانت أجهزة الريموت كنترول، وكان من يمسك بها يصبح هو صاحب العرش. «عرش السعدنى».. فإذا غاب قليلاً فى المطبخ من أجل صنع الطواجن أو فى الحمام وعاد وضبط أحدهم جالساً على الكنبة وممسكاً بالريموت كنترول اتهمه بمحاولة عمل انقلاب على السلطة السعدنية والاستيلاء على العرش، وكانت شقة السعدنى هى قبلة كل المصريين والمقيمين والعابرين لإمارة الشارقة خصوصاً ودولة الإمارات عموماً.

فى تلك الأيام من عام 1981، كانت استديوهات عجمان عامرة يشغلها أهل الفن صيفاً وشتاء، وكانت كل الوفود الفنية لابد أن تقوم بزيارة السعدنى فى شقته الكائنة بأحد أجمل شوارع الشارقة، شارع جمال عبدالناصر، وكان تحت منزل السعدنى سوبرماركت يبيع كل شىء من السجائر إلى البقالة إلى أدوات الكهرباء إلى السباكة، صاحبه فلسطينى طيب شهد مأساة ونكبة فلسطين وهجرها فى عام 1948، ورسيت مراكبه أخيراً فى إمارة الشارقة، وكان هذا الرجل الطيب كلما أحب شخصاً قال له «والله أنت من النشامى»، أو إذا أعجبه موقف أطلق على صاحبه صفة النشامى، لذلك أطلق السعدنى على هذا الرجل اسم النشامى، فإذا أراد شراء سجائر قال للهندى الذى يعمل لديه هات لى سجائر من عند النشامى أو جبنة من عند عمك النشامى، فينزل الهندى ويقول: «يا عم نشامى هات سجائر لعم السعدنى»،. وهكذا أصبح لقب الرجل لدى سكان العمارة ومن ثم سكان العمائر المجاورة النشامى.

وبفضل النشامى لم نكن نخرج كثيراً من المنزل، وكان يجتمع لدينا يسرى ندا، الصحفى المصرى والمخرج الإذاعى بإذاعة الشارقة وأحمد الجمال الصحفى والقطب الناصرى الكبير والسيد عبدالحكيم عبدالناصر أصغر أبناء الزعيم الخالد، وعدلى برسوم الكاتب الصحفى وكباتن الكورة يكن حسين وأحمد رفعت، وكان السعدنى يتوج جلسته بعمل الطواجن التى كان ضيوفه يقبلون عليها لشدة الجوع بسبب جلوسهم الطويل مستمتعين بأحاديث السعدنى لساعات طويلة، ولكن دائماً ما كان يعقب ذلك الاستمتاع بندم شديد بفضل آلام القولون والمصران الغليظ والتلبك المعوى، فقد كان السعدنى مدمناً لأكل الشطة، وذات يوم أضاف السعدنى إلى الطاجن كمية رهيبة من الشطة وبمجرد أن تذوق الولد الهندى الذى كان يعمل لديه الطعام برطم بكلمات هندية لم أفهم منها حرفاً بالتأكيد ولكن السعدنى ضحك من أعماق القلب لأنه أدرك أن الولد الهندى يسب الأخضرين.. وهو يضحك طلب منى السعدنى أن أغرف له طبقاً من هذا الطاجن اللى ما حصلش على حد قوله، وبمجرد أن دس السعدنى يديه فى الطاجن ووضع الطعام فى فمه جرى إلى البلكونة وهو يلطم الخدود وينفخ فى الهواء يتجه إلى السماء قائلاً: «ليه كده.. علشان خاطر النبى ده أنا حبيبك.. آه يا أمة» وأسمع ضحكات مجلجلة من الولد الهندى الذى نسى آلامه وتفرغ للاستمتاع بأوجاع السعدنى من الشطة التى وضعها بنفسه لنفسه.. وبرطم السعدنى ببعض الكلمات الهندية.. «توم أوردو جانيتا على ملعون أبو مش عارف إيه بالعربى.. وهرب الولد الهندى وظل مختفياً عن المنزل لعدة أيام حتى هدأت ثورة السعدنى وعاد وكأن شيئاً لم يكن.. ولكنه سأل السعدنى عن سر هذه الكلمات التى يجيدها بلهجة هندية صحيحة، فحكى له السعدنى كيف أنه التقى بالزعيم الكبير نهرو.. وكنت قد علمت بسر هذا اللقاء وقرأته واستمعت إلى نفس الحكاية من أصدقاء السعدنى طوغان وعلى جمال الدين ولكنها عندما رواها السعدنى أضاف إليها طعماً مختلفاً ونكهة أجمل تماماً مثل بهارات والشطة التى أضافها إلى الطاجن الشهير.. وقبل أن يجيب السعدنى عن سؤال الولد الهندى سأله سؤالاً محدداً: لماذا هربت عدة أيام خارج المنزل؟ فأجابه الولد قائلاً: أنا هربت علشان فيه واحد ألم مش قادر أتحمله، وهو يشير إلى بطنه يقول:.. كان فيه موت هنا لـ3 أيام رحت المستشفى قالوا لى حد حط سم عشان أنت وكنت هأبلغ عنك.. وهنا ضحك السعدنى وهو يقول طيب م احنا كلنا أكلنا من السم ده.. وهنا نهض الولد الهندى وهو يطلب من السعدنى ألا يدخل المطبخ مرة أخرى، وأن يترك له مهمة إعداد الطواجن خصوصاً أن الفترة التى أمضاها مع السعدنى أربعة أشهر كانت كافية ليصنع الطاجن كما ينبغى.. فرفض السعدنى الطلب وبشدة، وكان حاضراً فى ذلك اليوم العم يسرى ندا، الذى ضرب كفاً بكف وهو يستمع إلى طلبات الولد الهندى وهو يعلم أنها طلبات مستحيلة.. وقال يسرى ندا للولد الهندى «إنت يا ابنى متعرفش عمك السعدنى ده يبقى مين؟ ده حاجة جامدة قوى فى مصر كان عنده بيت كبير، البيت ما كانش فيه أوض نوم ولا سفرة ولا صالونات. كان مكوناً من 3 مطابخ وبلكونة بتطل على مطابخ الجيران، يضحك الولد الهندى ولكن يسرى ندا يضيف: أى والله عمك محمود هو اللى حكى لى الحكاية دى، ويأخذ السعدنى بناصية الكلام فيقول للولد الهندى إنه لا يستطيع ولا يأمن لأحد على عمل الطواجن هذه الأيام سوى شخص واحد فقط هو الحاج إبراهيم نافع، الفلاح وغير ذلك فإن المهمة ستكون من نصيب السعدنى ولا أحد سواه.. ولكن الولد قال إنه لا يعترض على الطواجن ولكن كل اعتراضه على الشطة.. فقال: «بسيطة.. تاهت ولقيتها.. إذا كان عل الشطة أنت حتاخد نصيبك من الطاجن قبل ما أعمل اللمسات السحرية عليه ويا دار ما دخلك شر».. وهنا عاد البشر ليرتسم على وجه الولد الهندى الطيب الغلبان الذى أحب السعدنى كما يحب أباه وجلس على الكرسى المواجه للعرش وهو يسأله كيف التقى مع نهرو.

وينسحب يسرى ندا من لسانه فيسأل السعدنى سؤالاً أغاظه كثيراً «إلا هى الحكاية دى حقيقى يا عم محمود؟».. فيجيب السعدنى: أمال يعنى أنا حألفها يا ابن المجنونة ويسرح السعدنى بعيداً وكأنه يستعيد ذكريات الزمن الجميل.

فيقول: «كان نهرو مسافراً من الهند إلى إحدى الدول ومر بسماء القاهرة وتقرر أن يمضى بعض الوقت فى المطار لتزويد طائرته بالوقود والذى منه.. وعرفنا فى الوسط الصحفى أن نهرو قادم، وأنه لن يقابل أحداً من الصحفيين اللهم إلا إذا كان يجيد التحدث باللغة الهندية».. ولم يكذب السعدنى خبراً.. فقد بحث فى جيوبه فوجد خمسة قروش بالتمام والكمال.. ركب مواصلة إلى السفارة الهندية واشترى أربع سجائر فرط وضعها فى جيب قميصه وطلب مقابلة السفير الهندى لأمر مهم.. لكن الموظف الذى قابل السعدنى لم يكن السفير ولم يكن يتحدث العربية ولكنهما تفاهما بالإنجليزية، وقال المسئول الهندى إن الزيارة ليست رسمية، وأن الزعيم نهرو قرر أن يقابل فقط الذين يجيدون الهندية من بين أصحاب القلم.. ونظر إلى السعدنى نظرة فيها بعض التعاطف فقد شعر بأنه صحفى بسيط الحال وهو -أى الموظف- كان يشارك السعدنى فى بساطة الحال فرق له قلبه وصحبه السعدنى إلى قهوة بلدى وطلب له واحد شاى وساندويتش فول وعزم عليه بسيجارة (سمسون أرض) وطلب منه أن يعلمه بعض الكلمات الهندية، وبالفعل بعد الجلسة استطاع السعدنى أن يتعلم بعض الكلمات.. توم أوردو جانيتا.. وأشياء أخرى فظل يرددها دائماً كلما قابل هندياً أو باكستانياً، وفى اليوم الموعود يقول السعدنى «ذهبنا إلى المطار «طوغان وأنا» ولم يكن طوغان يعرف شيئاً عن حكاية السفارة الهندية، ولذلك فقد سأل السعدنى عن سر ذهابهما إلى المطار مع أنهما لا يعرفان شيئاً من الهندية.. وقال طوغان «يا ابني انت حتضيع وقتنا كده أونطة»!!

ولكن السعدنى بنظرة واثقة وكلمات موزونة شجع طوغان على المضى معه إلى طريق المطار.. وهناك كان فى انتظار نهرو حكمدار القاهرة مندوباً عن رئيس الوزراء صدقى باشا ورجل اسمه فخر الدين كان يجيد الهندية والإنجليزية والعربية مندوباً عن السفارة الإندونيسية.. وتقرب السعدنى من هذا الرجل وأخرج له سيجارة سمسون أرض وبكل فخر قدمها إليه فضحك الرجل من أعماق القلب.. فنظر السعدنى إلى السيجارة ثم عاود النظر إلى الرجل ويده تعبث فى جيب الجاكتة، فأخرج منه سيجاراً فاخراً ومنحه للسعدنى، وطلب منه عدم إشعاله إلا بعد مغادرة الزعيم نهرو.. ما هى إلا دقائق حتي ظهر نهرو بصحبة حكمدار القاهرة.. ويقول السعدنى إن منظره لم يكن يسر أحداً على الإطلاق، «فقد كان الجو حاراً جداً ومع ذلك لم أجد شيئاً أرتديه لهذه المناسبة سوى بدلة شتوى ثقيلة للغاية كانت جيوبها فارغة من كل شىء، فقررت أن أملأها بالأوراق وأمسك ببعض هذه الأوراق فى يدى وقلماً جافاً صغيراً للغاية.

وعندما ظهر نهرو كان منظرى بهذا الحال كفيلاً بأن يلفت نظر الجميع وعلى رأسهم عمكم نهرو». وانتهز السعدنى الموقف فتقدم نحو نهرو وقام برطن بعض الكلمات التى تعلمها ودفع ثمناً لها سيجارة وكوب شاى وساندويتش فول.. لكن تبين أن مفعولها كان عظيماً وهائلاً، فقد سأل نهرو بالهندى عن أحواله وصحته وابتسم الرجل بشدة وقام بالطبطبة على كتفى السعدنى وأمسك بيده وسحبه معه إلى قاعة كبار الزوار.. وهنا أخذ الحكمدار يرمق السعدنى بنظرات كلها تساؤل فمن يكون هذا الشخص العجيب بتلك الملابس الأعجب والذى اقترب من الزعيم الهندى وقرر مصاحبته إلى قاعة كبار الزوار؟! ربما هو شخص عظيم الأهمية.. ولذلك فقد كان الحكمدار دائماً ما يفسح الطريق للسعدنى ليتقدم أولاً وعند قاعة كبار الزوار قام الحكمدار بضرب تعظيم سلام له وهو يدخل القاعة، وهو الأمر الذى لفت انتباه نهرو فظن أن السعدنى أحد كبار المسئولين فى الدولة المصرية، وأنه جاء خصيصاً للترحيب بنهرو الذى صحب الحكمدار والسعدنى وفخر الدين صاحب السيجارة وجلسوا معاً وأخذ نهرو يتحدث عن السياسة والرياضة والتجارة وأشياء أخرى أحياناً بالإنجليزية وفى بعض الأحيان بالهندية.. واستطاع السعدنى أن يفهم مضمون الكلام وحمد الله وشكر فضله لأن كل الظنون، ظنون نهرو، بأنه مسئول رفيع مصرى.. وظنون الحكمدار -بأنه ربما يكون أحد رجال المخابرات فى السفارة الهندية- كلها صبت فى مصلحته.. واتجه السعدنى إلى أقرب مقهى وأمسك بالورقة والقلم وكتب حديث نهرو بتفاصيله بعد أن تأكد من الترجمة عن طريق فخر الدين.. ونشر السعدنى الحديث الذى أحدث ضجة كبرى فى الأوساط السياسية في مصر وفى بعض البلدان الأوروبية وصنع كوارث فى العلاقات مع الهند لدرجة أن نهرو  اضطر فى محطته التالية إلى أن يكذب تماماً أنه التقى بأى صحفى مصرى أثناء إقامته القصيرة في مطار القاهرة. ويضحك الولد الهندى لكن السعدنى يقطع استمتاعه بالحديث فيطلب منه أن يصنع لنا دور شاى ويتجه إلى المطبخ لتنفيذ الأوامر.. وهنا يسأل يسرى ندا السعدنى عن سر وجودى فى الشارقة إلى جانبه خصوصاً أن السنة الدراسية أوشكت على الانتهاء، وأن مصيرى ربما يكون مثل مصير الولد الهندى بتاع الشاى.. فصمت السعدنى وهو يمط شفتيه وهو يقول «أنا نفسى مش عارف حاعمل إيه لا عارف أرجع مصر ولا أروح على العراق وبينى وبينك فى العراق المسائل خطيرة جداً ممكن يعملوا أى حاجة فى أكرم علشان يغيظونى». ويسأله عم يسرى عن سر بقائه فى الشارقة فيقول السعدنى: الشارقة دى إمارة صغيرة فى المساحة لكنها الخالق الناطق حتة من مصر نتوء خرج من الجيزة وأنا هنا باحس براحة نفسية وساعات بأشعر أنى فى الجيزة وسط أهلها.. وبالفعل كانت الشارقة فيها روح مصر بفضل عشق حاكمها الشيخ سلطان القاسمى لمصر وللمصريين.. فقد اعتدنا الخروج ليلاً والسهر فى المقاهى المنتشرة فى بعض أحياء الإمارة وكان رواد المقاهى أغلبهم من مصر والأغانى التى يسمعونها أغانٍ مصرية والأفلام والمسلسلات المعروضة كلها مصرية وكانت الحوائط تزين بعلم مصر وبصور عبدالناصر رحمه الله ومبارك الله يفك سجنه، وكان أهل الصعيد لهم مكانة سامية لدى أهل الشارقة.. وكان السعدنى يشعر بلذة حقيقية، وهو يواصل السهر وسط هؤلاء المصريين الطيبين البسطاء.. وفوق ذلك فقد ارتبط السعدنى بصداقة قوية مع حاكم الإمارة.. فالشيخ سلطان رجل عروبي شديد الاستقامة بالغ البساطة يعشق مصر لأنه تعلم فى جامعة القاهرة فى كلية الزراعة وكان زميلاً لعادل إمام وصلاح السعدنى والمنتصر بالله، وكان من عشاق مقالات وسخرية السعدنى، ولذلك فقد رحب دائماً فى بلاده بإقامة السعدنى ومنحه الأمان الذى افتقده كثيراً فى بلاد الآخرين وعرض عليه الإقامة فى الشارقة فى أى وقت يشاء.. وبالفعل كان مجىء السعدنى إلى الشارقة فيه حلول لكل المشاكل، فالإمارة ليست فى حالة عداء مع أحد وليست لها أطماع تضعها فى موقف منافسة مع العراق أو ليبيا أو غيرهما من الدول، كما أنها -أى إمارة الشارقة- وهى نتوء من أرض مصر لن تغضب أحداً فى مصر لو أنها احتوت السعدنى، وكان السعدنى يدرك تماماً أن النظام الجديد فى مصر والعهد الجديد الذى بدأ مع مجىء الرئيس مبارك إلى الحكم يختلف تمام الاختلاف عن نظام الرئيس أنور السادات، وأن ردود الفعل العصبية والفجائية ومطاردة الطيور المهاجرة فى كل بقاع الأرض ليست منهجاً للنظام الجديد.. وعليه قرر السعدنى أن يهدئ اللعب مع الحكام الجدد فاختار هذه الإمارة ذات الطابع المصرى الجميل لتكون محطته الأخيرة للعودة إلى القاهرة مع أن السادات ذهب إلى رحمة الله وحسنى مبارك ليس على عداء مع أحد ولم يرث عداءات الرئيس السادات، إلا أن عودة السعدنى إلى مسقط الرأس تأخرت وبدا أن هناك شيئاً ما وراء هذا التأخير!!