رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

تأملات

بعد عمر يقع فى منتصف المسافة بين الخمسين والستين عامًا، وبعد احتكاك مع الحياة غير قليل، أكاد أؤكد أن أمر الرشوة فى مصر أصبح يتطلب رؤية جديدة تقوم على محاولة التكيف معها دينيًا وتشريعيًا، وأرجوك لا تقل لى إن فى ذلك نظرة انهزامية أو تنبطح للأمر الواقع، فذلك أمر مما لا بد منه وإلا لن يستقيم للحياة حال فى «المحروسة».

 صحيح أن البعض قد يحتج بالحديث المنسوب للنبى عليه الصلاة والسلام بأن الراشى والمرتشى فى النار، فيما قد يشير البعض الآخر إلى أن الرشوة بحكم كافة القوانين وعلى مدار الزمان مجرمة ويأثم من يقوم بها، إلا أن واقع الحال أيضًا يشير إلى أن الأديان كافة لم تستطع أن تفرض مبادئها ورؤاها وأنها فى تفاعلها مع المجتمعات التى سادت فيها تأثرت بالأعراف والتقاليد السائدة وأثرت فيها. كما يشير هذا الواقع كذلك إلى أنه ما أكثر القوانين التى لا يتم الإلتزام بها أو احترامها وتتحول إلى مجرد كلمات مسطورة فى صحف مطبوعة أو معلقة على ألواح الحوائط فى كافة المؤسسات الرسمية بل وغير الرسمية.

وإلا فما معنى أن تدخل مؤسسة تقدم خدماتها للجمهور وتجد تلك اليافطة فى وجهك تسد عين الشمس وهى تؤكد لك أن الخدمات التى تقدمها لك مجانية باستثناء ما هو بإيصال رسمى وأن الموظفين الموجودين مدنيين أو غيرهم هم موجودون لخدمتك ثم تجد نفسك تسابق الزمن لكى تعطى من جيبك هذا وذاك من الموظفين الذين تتعدد نواحى التعامل معهم بتعدد الشبابيك التى يتطلبها إنجاز معاملتك الرسمية أيا كان نوعها.

أقول ذلك وفى ذهنى ذلك الانتشار الطاغى للرشوة فى مصر حتى أنها أصبحت من الظواهر المتعايش معها وغير المنكرة، بل التى يجرى تقديم «فلسفة» محكمة حول أسباب انتشارها وضرورات القبول بها، ولذلك فإنك إذا تأملت الموقف من الرشوة فلا بد أنك ملاحظ للتحول فى التساؤل بشأنها عما إذا كانت محرمة إلى التحول للتساؤل بشأن ما إذا كانت جائزة أم واجبة!! ذلك أنه أصبح هناك قناعة لدى الغالبية العظمى من المصريين بأن الرشوة أصبحت جزءًا من الحياة، وأصبح لها مبررات تسوغ القيام بها دون وخز الضمير، من الراشى أو المرتشي.

 فالموظف – المرتشى - يقنع نفسه بأنها رغم أنها شر وقد يؤدى به إلى النار إلا أنها مما يدخل فى عداد الشر الذى لا بد منه، وإلا كيف ينفق على تكاليف المعيشة والأولاد من ذلك المرتب الهزيل الذى ربما لا يكفيه الأيام العشرة الأولى من الشهر. والمواطن – أى مواطن – يرى أنه واقع تحت سيف الرشوة وإلا لجرى له ما جرى لـ «مصرى» أو «أحمد حلمي» فى فيلم «عسل أسود» حينما وجد نفسه مجبرًا على اللف والدوران «كعب داير» من أجل استخراج البطاقة لأنه لم يبادر بدفع «المعلوم» للموظف المختص.

وربما لانتجاوز الحقيقة إذا أشرنا إلى أن الأمر المستقر لدى الجمهور – العامة من الناس أو حتى جمهور الفقهاء – هو أنه عند الحديث عن الرشوة فإنه يجب تقديم مبدأ الضرورات تبيح المحظورات. كنت حتى الأسبوع الماضى فقط أرى أن الجميع على خطأ.. فقهاء وغير فقهاء، فالرشوة حرام مهما كانت محاولات أو مزينات تسويغها بين الناس، على هذا ألزمت نفسى على مدار حياتى رغم كل المشاكل التى لا تخفى على الجميع من إلتزام مثل هذا السلوك، غير أن ما حدث معى مؤخرا أثار الشك لدى بشأن صحة موقفي. سألت نفسي: هل من المعقول أن الجميع على خطأ وأننى ومن هم على شاكلتى على صواب؟

رغم أننى صحفى قديم ومن المنتسبين لما يوصف بالسلطة الرابعة، إلا أننى أحرص على إنجاز معاملاتى بعيدا عن تلك الصفة أو غيرها، إمعانًا فى معايشة الواقع وحرصًا على عدم نيل ما هو ليس من حقي، وربما لهذا السبب أو غيره ذقت الأمريّن مؤخرًا حينما أقدمت على أستخراج رخصة حكومية ولم أفكر فى التعامل سوى أننى مواطن عادى لا حول له ولا قوة.. فلا جاه يتمثل فى مهنة ذات قيمة، ولا مال يتمثل فى «معلوم» ييسر إنجاز المعاملة.

كانت النتيجة أننى دفعت أضعاف «المعلوم» الذى هو رشوة خمس مرات لاستخراج أوراق أخرى لم يكن الأمر يتطلب وجودها – دون إزعاج القارئ بالدخول فى تفاصيل – وضياع ثلاثة أيام اقتطعتها من العمل للف والدوران لإنجاز ما فات لى إنجازه بسبب تخلفى وعدم قدرتى على فهم واقع الحال فى مصر.

لسنا ملائكة ولا شياطين، فنحن بشر فى النهاية، ولكن هل يمكن أن نصدق أن مصر يمكن أن تخطو خطوات إلى الأمام لو سار معدل الفساد، وفى القلب منها الرشوة على هذا الحال من كونها «أسلوب حياة»؟. أشك! هل يتصور أولو الأمر أن ما يقومون به من أجل احتلال مصر مرتبة متقدمة بين دول العالم يمكن أن تؤتى أكلها لو استمر الحال على ما هو عليه؟ أشك! شعرت بألم حينما راح الموظف يعتذر لى فى النهاية بعد أن قمت بعجين الفلاحة لكى أستجيب لطلباته قائلا: معلهش «كعلبناك».. كنت أود أن أصرخ فى وجهه قائلًا: لقد كعبلت مصر وأنت أول من ستجنى شوك تلك «الكعبلة»!!

[email protected]