عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

اجتمعنا مرة أخرى فى الطائرة أنا وأفراد الطاقم الأمنى الخاص بى، ولكن واحداً فقط منهم لم يستطع أن يجد مكاناً على متن الطائرة، ولذلك اجتمع الأربعة إلى جانب شخصى الضعيف وهم يحلمون بأن تكتحل عيونهم برؤية الشوارع والمبانى والبشر والنيل والأهرامات والأحبة والخلان.. وراح كل منهم يحلم بما سوف يحققه فى مستقبل الأيام.. وعندما سألونى عن أحلامى قلت لهم إننى لا أعرف ما سوف يحدث لى.. فقد غامرت بالذهاب فى هذا الوقت المبكر إلى مصر، ربما يكون بعض رجال السادات موجودين فى أماكن حساسة، وقد ينتقمون منى ليكيدوا السعدنى الكبير، وقد لا أخرج من المطار أساساً.. هنا انتفض أحدهم وقال: «علىَّ الطلاق بالتلاتة ما حد يقدر يمس شعرة من راسك.. هو احنا نسوان واللا على راسنا طرح!!».. بصراحة أنا انشكحت غاية الانشكاح من كلمات أخونا إياه.. وبعد جاء الدور على الآخرين ليؤكدوا على نفس المعنى.. وتصورت أنهم بعد ذلك سيهتفون بالروح.. بالدم.. نفديك يا سعدنى.. أو سيغنون لى يا سعدنى يا أبو بندقية.. يا زينة الأمة العربية!! المهم أن الرحلة من الأردن إلى مصر لم تختلف عن سابقتها من بغداد إلى عمان، فقد كانوا يعاملون البسطاء من أهل مصر بطريقة مهينة وكأنهم أقارب من الدرجة الأولى للرئيس السادات الذى اكتسب عداء الأنظمة العربية كلها.. وبعد وقت كان طويلاً علينا هبطت الطائرة وحطت على الأرض المصرية، ساعتها شعرت براحة تسرى فى أوصالى وتسكن قلبى، فها هى مصر التى طرت إليها فى سنوات الغربة عبر صوت شادية.. فهذه السيدة الشديدة الرقة والعذوبة، كأن صوتها جزء من النهر الخالد بعذوبته وهو يحمل الحياة إلى أرض مصر.. كان صوت شادية يمنحنى القدرة على مقاومة كل آفات الغربة ويبعث داخلى الأمل فى أننى سوف ألقى ذات يوم ببصرى على الرجال السمر الشداد والأمل اللى فى عيون البشر.. وكانت دموعى تنهمر على صفحات الخد وأنا أستمع إلى المقطع الذى تقول فيه: أصله ما عداش على مصر.. يا حبيبتى يا مصر.. يا مصر!!

كنت أدعو من أعماق القلب لهذه السيدة أن يطيل الله فى عمرها، فهى صاحبة حنجرة شدت لهذه الأرض الطيبة بأجمل وأعزب إحساس بين مطربين ومطربات مصر.

نزلنا من على سلم الطائرة ونحن جميعاً ننظر فى الأفق، وشعرت وكأننى أحتضن مصر بهوائها وناسها وشمسها وأهلها، وحتى ذرات التراب التى تنتشر فى الهواء وتكون مع أشعة الشمس سحابة من الغبار تتخللها ألوان تشبه ألوان الطيف تضفى على مصر - حتى الغبار - لمسة جمال تخصها وحدها دون غيرها من بلاد الله.. لا أدرى كيف جلجلت شادية بصوتها فى أذنى عندما هبطت على الأرض، وسجد كل ركاب الطائرة على أرض المطار يقبلون ترابها الطاهر، واتجهنا بعد ذلك نحو سيارة قطعت بنا طريقاً كأننا هبطنا فى أحد البلدان القريبة من القاهرة، فقد كانت المسافة بعيدة جداً.. وأخيراً وصلنا إلى صالة الوصول.. ومنحونا كروتاً كتبنا عليها عدد السنوات التى قضيناها خارج البلاد والأماكن التى قضينا فيها هذه المدة.. وتركونا بعد ذلك وحجزوا جوازات السفر، ثم قاموا بالنداء علينا واحداً واحداً، وكانوا يقودون كل واحد منا إلى أماكن لا نعلم عنها شيئاً، ولكن من يذهب إليها لا يعود.. وعندما جاء الدور على «شخصى الضعيف دخلت فى ردهات وصالات ثم غرفة يجلس على بابها مخبر ويسمح بالدخول لشخص واحد، وبعدها صالة صغيرة جداً ثم غرفة يجلس فيها ضابط.. واستقبلنى الضابط بترحاب مصطنع وبدا وكأنه يؤدى دوراً مكتوباً، وجلست أمامه وهو يسألنى عن سر الغياب طوال هذه السنوات.. فقلت له إننى كنت أدرس خارج البلاد.. وكان الضابط صغير السن ويبدو أنه لم يكن يعرف السعدنى ولا قرأ له ولا سمع عنه، ويبدو أنه كان منهمكاً فى الدراسة وتكوين نفسه، بدليل أن اسمى بالكامل لم يلفت نظره على الإطلاق، ولكنه ظل يسأل عن نوع الدراسة وعن البلدان التى زرتها، ثم طلب منى أن أجلس فى غرفة مجاورة حتى يستجوب غيرى من القادمين.. وذات استجواب دخل علينا رجل يرتدى الزى الرسمى برتبة عميد فانتفض الضابط الذى يلبس الملابس المدنية وقام بضرب تعظيم سلام ثم أخذ العميد ينظر إلىّ بتمعن، ثم أخذ جواز سفرى وقرأه مدققاً فى صورتى ثم فى وجهى وضحك ضحكة استنكارية وهو يقول: أخيراً رجعتوا.. أمال الوالد فين؟! وارتسمت الدهشة على وجه الضابط الصغير وهو يقول: إيه ده انتوا طلعتوا معرفة.. هو سيادتك تعرفه كويس؟ فنظر الضابط الكبير إلى الضابط الصغير وقال: ده صيد ثمين قوى؟! وأضاف: إنت مش عارف ده ابن مين؟! فأجابه بالنفى! فعاد يقول له: ده ابن محمود السعدنى يا سيدى.. ولم يبد الضابط الصغير أى إشارة تفيد بمعرفته للسعدنى، وتلقى الضابط الكبير نداء اتجه على أثره إلى الخارج، وهنا اقترب الضابط الصغير منى وهو يقول: انت تقرب إيه لصلاح السعدنى؟.. فقلت: يبقى عمى.. فعاد يقول: الشبه كبير قوى.. لكن الوالد بيعمل إيه؟!.. قلت: الوالد صحفى.. فهز رأسه وكأنه جاب الديب من ديله ثم جلس وأخذ يتصفح فى أوراق الجواز، ثم طلب منى أن أجلس فى الغرفة المجاورة حتى ينادينى، وسمعت الضابط يتحدث تليفونياً مع رئيسه المباشر ويسأل عن محمود السعدنى.. وهنا جاء الضابط العميد فوجدنى جالساً بمفردى فى الغرفة التى يجلس بها المخبر.. وهنا أشار بإصبع السبابة وهو يقول: ده مايقعدش هنا تانى يدخل الأوضة السلك!!

وهنا كانت الطامة الكبرى.. فقد بدأت أدخل غرفة ضخمة يحيط بها السلك المقوى من كل جانب ويحرسها أربعة رجال أشداء يبدو من سحنتهم أنهم مصارعون وعلى وجوههم ترتسم علامات الشك والريبة وعدم الرضا، والابتسامة لا تعرف طريقها إلى هؤلاء الرجال، وهم يتعاملون معنا وكأننا متهمون بقتل السادات.. لكن هؤلاء الحراس كانوا ملائكة منزلين على الأرض إذا ما قارناهم بإخواننا الذين شاركونا الغرفة، تجولت ببصرى فى أركان الحجرة فوجدت حولى مجموعة من الكفار الذين أعرفهم وأحفظ وجوههم عن ظهر قلب من الأفلام المصرية القديمة، الدينية منها على وجه الخصوص، واكتشفت أنهم طلبة وشباب ملتحون ينتمون إلى تيار الإخوان لكن ملامحهم تشير إلى أنهم لم يعرفوا الطريق إلى المياه منذ فترة طويلة، وأنهم رهن الاعتقال منذ وقت طويل.. شوارب ضخمة، حواجب كثة، لحى كثيفة.. وبالطبع أدركت أننا فى مكان محروس حراسة مشددة بفضل وجود هؤلاء الشبان، وكنا نخرج فرادى من أجل التحقيق وكذلك نعود.. لكن الضابط الذى يرتدى الملابس الملكية تغيرت طريقة تعامله من تمثيل أداء نمطى للضابط الذى يحاول أن يكون محايداً ولطيفاً إلى حد ما.. ولكن الأحوال تبدلت فإذا به يحاول أن يكون ضابطاً «برم» تفذلك كثيراً ومد يده وأمسك بجاكت البدلة وهو يقول: دى حاجة مفتكسة قوى.. ماركتها إيه؟! ودس يده فى جيب الجاكيت وأخرج أجندة تليفونات وراح يتفحص الأسماء والأرقام ويعيد تدوينها فى أوراق موجودة أمامه.. ثم نادى على أحد العساكر وأمره بأن يصحبنى حتى الغرفة السلك.. وساعتها حلفته بأغلى الناس عنده أن أجلس فى الغرفة المقابلة ولكنه اعتذر وقال: دى أوامر الباشا الكبير، وامتثلت لأوامر الباشا وعدت إلى غرفة إخوانا إياهم.. وجلست فى ركن وحدى، لكنها دقائق معدودة حتى اجتمع بعضهم جانبى وطلب منى أحدهم منديلاً فناولته إياه.. ولم تمض سوى دقائق إلا وقام أحدهم وأذن للصلاة فى أذنى بأعلى صوته، وابتعدت عنه قليلاً لكن كلما باعدت المسافة بينى وبينه اقترب منى كما لو كان يقصدنى وحدى دون الجالسين بالغرفة، وبعد أن انتهى أمرنى بأن أصلى وقلت له: إننى لا أستطيع الصلاة دون الوضوء، وكما ترى نحن سجناء غرفة مسورة بالسلك فى قمة السوء، وتذكرت كلمات الولد الشقى الذى طلب منى عبر التليفون وأنا لا أزال بعد فى العراق أن أؤجل فكرة السفر إلى القاهرة لبعض الوقت.. وقلت ليتنى سمعت الكلام.. ولم أعد أدرى إلى أين المصير.. هل سيفرجون عنى أم سأخرج من المطار إلى السجن!.. كل هذه الأفكار شغلتنى وبددت تفكيرى.. وزاد الأمر سوءاً هؤلاء الشباب الملتحون، حيث جاءنى أحدهم وسألنى عن اسمى فأجبته: أكرم.. فنظر إلىّ نظرة فهمها زملاؤه وبعد ذلك ابتعدوا عنى تماماً ولم يعد أحد يبادلنى النظرات، وأمضوا الوقت يذكرون الله سبحانه وتعالى ويصلون على رسوله ويقرأون القرآن الكريم، وإذا نادى المخبر على أحدهم قام من فوره ملبياً النداء، وكانوا جميعاً ينتظرون الترحيل إلى السجون فى أى لحظة، ثم جاء الدور على شخصى الضعيف فنادى الرجل علىّ ويبدو أننى كنت فى سرحة طويلة فيما صنعت بنفسى، فأعاد النداء باسمى بالكامل: أكرم محمود عثمان، وهنا التفتوا جميعاً نحوى وغادرت الغرفة فأمسك بى أحدهم وهو يقول: الأخ مسلم.. قلت له.. انت شايف إيه؟.. محمود وعثمان.. عاوز إيه أكتر من كدة؟.. فتركنى وهو يدعو لى بأن يأخذ الله بيدى.

وأنا أدخل غرفة الضابط وجدت الأصدقاء الأربعة الذين يعود إليهم الفضل فى ركوبى الطائرات عند الضابط، فابتسمت فى وجوههم فبادلنى أحدهم الابتسامة، وكان الضابط يراقب الأمور دون أن تفوته واردة أو شاردة، فنظر إلىّ ثم نظر إليهم واحداً واحداً وأمرهم بالانصراف.. وسألنى عدة أسئلة أجبته عنها عن عناوين الأهل والأصدقاء وأرقام الهواتف الخاصة بهم.. ثم سألنى سؤال عجيباً: تحب تمشى من المطار على البيت؟.. أجبته بسؤال: وهو أنا هامشى من المطار على حتة تانية؟! فقال: ترد على سؤالى فقط.. عاوز تروح على البيت؟! قلت عاوز قوى.. قال: إذن ممكن تكتب لى على ورقة صغيرة كدة أن الوالد كان غلطان فى موقفه من الرئيس السادات!! هنا نظرت إلى الضابط وقد صغر حجمه فى نظرى وأطلت النظر طويلاً.. فشخط شخطة عنترية وهو يقول: انت حتاخد لى صورة واللا إيه؟! لم أجبه ولم أتلفظ بأى كلام وحل الصمت على المكان لفترة كانت طويلة علىّ.. حتى أعاد الكرة مرة أخرى وهو يقول: الورقة والقلم أهم وأنا أردهما إليه قلت: ما فعله الوالد أعتقد أنه يؤمن به إيماناً حقيقياً وقد يكون هو الصواب بعينه. وأنت عندما تقف موقفاً عن إيمان صادق من هنا يقيمك الآخرون وتقيم نفسك بنفسك. سألنى الضابط: يعنى إيه؟! قلت: يعنى أنا باحترم اختيارات أبويا لأنها نابعة من داخله مش من الآخرين.. فنظر إلىّ هذه المرة نظرة طويلة والغيظ يكاد يفرى كبده، ثم أمر المخبر الجالس على الباب أن يأتيه بالأربعة إياهم.. فجاءوا إليه وطلب إليهم أن يصطفوا فى طابور، ويبدو أن المخبر عرف اللى فيها فأمسك بالأول من حزام البنطلون وجذبه بعنف نحو الضابط، وقام الأخير من على كرسيه ونظر إلىّ ثم فى حركة فجائية لطش الولد إياه قلماً اهتزت له جنبات الغرفة، وارتسم الخوف على ملامح الجميع وأنا أولهم.. ونظر الضابط إلىّ وهو يسأل الآخرين: باين عليكوا تعرفوا الأخ وهو يشير نحوى، كويس قوى.. لم يرد أحد.. فصرخ فيهم.. مين فيكوا يعرفه؟!.. وكأنهم اجتمعوا على قلب رجل واحد.. صاحوا فى نفس واحد: ولا شفناه قبل كدة يا بيه!! ثم اقترب منى فى حركة تمثيلية ووضع يده على كتفى وانتظرت قلماً أو روسية أو ما شابه لكنها كانت بونية من النوع الذى كان محمد على يسدده إلى خصومه فى حركة سريعة ومرنة ومفاجئة، ولكنها لم تسدد نحوى والحمد لله، فقد كانت من نصيب الواقف فى الصف رقم 2، تلت ذلك شلاليت وسباب وضرب على القفا.. وبالطبع لم يقف المخبر متفرجاً فشارك فى السيرك المنصوب من حولنا.. ثم أعطى الضابط إشارة بانتهاء العرض وساق المخبر إخواننا الأربعة إلى خارج الغرفة.. وجلس الضابط فى مكانه من جديد وأشعل سيجارة وسحب منها نفساً عميقاً وأطلقه على شكل عمود دخان انطلق على شكل حلقات فى سماء الغرفة وهو ينظر إليه متعمقاً بينما أنا أنظر فى اللا شىء أحلق بفكرى فى تلك اللحظات التى كنت فيها على أرض العراق أنعم بالحرية بعيداً عن تهديدات هذا الضابط الذى ذكرنى بضباط هتلر أيام الحكم النازى.. وفجأة يلقى الضابط بالسيجارة بحركة بهلوانية فتعبر الحجرة وتخرج من الباب، ويقوم المخبر من مكانه ويدوس عليها، ويعتدل الضابط على الكرسى وينظر فى ساعته ثم يخلعها ويضعها أمامه ويسألنى: يا ترى تتحمل قلم من دول؟!.. قلت له: إننى لم أحتمل القلم الذى هبط على خد الولد الغلبان الذى كان واقفاً هنا منذ قليل؟!.. فضحك وهو يقول: جميل لما انت مش حتستحمل قلم.. مش يبقى نسهل الأمور ونكتب الكلمتين!! قلت له بصوت خفيض ولهجة حاسمة: الحكاية دى مش ممكن ح تحصل وأتمنى لو ننساها لأننى لا يمكن حاكتب كلام يدين أبويا. وقلت له: حط حضرتك نفسك مكانى؟!.. وقال دون تفكير.. ما هو لو كل واحد سأل نفسه السؤال ده مش ح نزعل من بعض.. يعنى انت كمان تحط نفسك مكانى..فى تلك اللحظة صممت بينى وبين نفسى أن أثبت على موقفى أياً كان الثمن حتى لو بلغ الضرب والتعذيب. ويبدو أنه قرأ ذلك على ملامحى فقال: أنا شايف إنك ترجع الأوضة السلك تستريح شوية وتفكر.. وأشار ناحية الباب وقال: اتفضل.. واتفضلت!!

ذهبت إلى الغرفة وأنا متأكد أن كارثة فى الانتظار، وبالطبع كان رأسى مثقلاً بعشرات الأفكار، ولم أكن مهيأ للكلام فى أى موضوع، كل ما أردته أن أختلى بنفسى، ولكن كيف والإخوان فى الغرفة قد التفوا حولى يسألوننى عن سبب احتجازى معهم، بعضهم ظنوا أننى مدسوس عليهم وعاملونى على هذا الأساس.. والبعض الآخر ظنوا أننى أنتمى إلى تنظيم قبطى.. ولم أسلم من الأسئلة والاستجوابات لكننى تركتهم وذهبت إلى أحد أركان الغرفة ووضعت رأسى بين كفى ولا أدرى ما هو بالضبط المصير الذى ينتظرنى!!

وبعد أكثر من 8 ساعات من الاحتجاز والسؤال والتحقيق قال لى الضابط إن أوامر صدرت من الوزارة بإخلاء سبيلى.. وأمرنى أن أستلم حقيبتى من المخبر.. وبالفعل ناولنى المخبر أنقاض الشنطة، فقد مزعوها بالأمواس والسكاكين ليفتشوا كل شىء فيها ظناً منهم أننى هربت أوراقاً من الخارج إلى الداخل.. ولم أعلق على ما حدث للشنطة أخذتها واتجهت إلى الخارج وأوقفت «تاكسى» وطلبت منه أن يوصلنى إلى حيث يقيم أقاربى فى مصر الجديدة، وفى الطريق اكتشفت أن مصر تغيرت كثيراً وأن حركة العمران طالت الصحراء التى كانت تحيط بالمطار، وأن معالم القاهرة طالها التغيير.. ولكن هذا أمر طبيعى ويمكن للإنسان أن يستوعبه، لكن الذى كان صعباً على النفس أن تستسيغه هو ما أصاب البشر.. فقد انطفأت داخل الناس تلك الشعلة التى وقودها الحب والمشاعر الصادقة التى لا تحركها المصالح، وأصبحت كل حركة محسوبة بالورقة والقلم.. لم يعد أحد يسأل فى أحد إلا إذا كان لديه غرض أو عنده طلب أو مصلحة، وأصبحت المادة هى القيمة الأكبر لدى الناس.. كل الناس.. لذلك فقد انشغلوا طوال الوقت من أجل الحصول على أكبر قدر منها!! وعندما وصلنا إلى المكان المقصود.. وجدت أن الأجرة قد ارتفعت بشكل رهيب وطلب منى سائق التاكسى علبة سجائر مارلبورو فاعتذرت أننى لا أدخن ولكنه قال إن الشنطة المفتوحة فيها خرطوشة.. اعتذرت له وقلت إنها هدية لأحد الأصدقاء.. وبكل بجاحة طلب منى ثمنها فوق التوصيلة فمنحته إياه وتعجبت لهذا السلوك الذى لم أعهده من قبل.. وبعد أن استرحت قليلاً بدأت فى التفكير فى كيفية الوصول إلى العم صلاح السعدنى وأنا لا أعرف له عنواناً أو رقم تليفون، فما حدث فى المطار ينبئ بأن هناك جولات آتية لا ريب فيها.. ولكن منظر الركاب ولهفتهم على العودة إلى الوطن وسجودهم جميعاً بلا استثناء لتقبيل الأرض، ثم الطحن والضرب الذى نالوه على أيدى ضابط المطار والمخبرين.. معادلة مقلوبة فى حاجة إلى من يعدلها!!