رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

الطلبة الذين وقعوا فى طريقى أثناء إقامتنا فى بغداد كان حقيقى لهم العجب، بعضهم كان صاحب قضية وأغلبهم لو عدى عليه الغُلب يقول له يا غلبان، ولذلك فقد لجأ أصحاب الغُلب هؤلاء الى الطريق الوحيد المتاح والممكن وهو الانضمام الى حزب البعث العربى الاشتراكى، ومن الصنف الأولأصحاب القضية والمباديء كان هناك  حسام إبراهيم سعد الدين الطالب المشاغب المهموم المغموم بقضايا بلده ووطنه والذى اضطره نظام حكم الرئيس السادات الى الهروب خارج حدود الوطن.. كان حسام وهو ابن اليسارى المصرى الكبير ابراهيم سعد الدين وهو بالتأكيد غير السيد سعد الدين ابراهيم.. قد اتهموه ظلماً بمحاولة قتل الرئيس السادات وسجنوه فى سجن القناطر الخيرية وبعد أن ذاق الأمرين فى السجن فضل أن يكمل دراسته فى العراق، وهناك كان حسام يسبقنا بسنوات طويلة واستطاع بفضل شخصيته القيادية وسحر حديثه وثقافته الواسعة أن يصبح أحد رموز الحركة الطلابية فى العراق هو وصديقه محمود محفوظ، وبالفعل بلغ هذا الثنائي عن طريق الانتخابات أرفع المناصب فى الاتحاد العام للطلاب المصريين فى العراق، ولا يخفى على أحد أن كل هؤلاء الطلاب النجباء كانوا محسوبين على قوى اليسار.. وكانت السفارة المصرية فى تلك الأيام تحاربهم حرباً شعواء ولكنها لم تستطع أن تنتصر عليهم، وبعد مبادرة السلام التاريخية للسادات انسحبت السفارة المصرية من المعادلة ولم يعد لها وجود أو نشاط فى أوساط الطلاب المصريين، وكان من الطبيعى أن يسيطر  حسام ورفاقه على الاتحاد المصرى للطلاب فى العراق ولكن العكس هو الذى حدث، فقد بدأت رؤوس للبعث تظهر وتطل وتنبئ بأن مكتب مصر بدأ يفرض سيطرته على اتحاد الطلبة المصريين وكان أول المتطوعين بالظهور على الساحة كبعثى  مصرى هو الطالب «محمود مزيكو» الذى كان حريصاً على تربية شنبه على طريقة صدام  حسين ـ رحمه الله ـ ولم يمض وقت طويل حتى انتشر البعثيون المصريون كما ينتشر السرطان فى الجسد «مجدى ميخائيل وعصام الحملاوى وصبحى صليب وعلى السيوفى» وتحول مقر الاتحاد الى فرع من أفرع حزب البعث العربى، وكان هناك ولد مصرى ابن بلد أصيل اسمه على معتوق هو الوحيد الذى لم ينتمِ الى هذا الحزب، ولذلك وبمجرد أن انتهى من دراسته سافر مباشرة فى اليوم التالى الى دولة الكويت، وأثناء إقامتى فى العراق أيام الجامعة اكتشفت أن بعض زملائى من المصريين فى الجامعة كانوا يعملون فى مقهى المربعة الشهير فى إحدى ضواحى بغداد ، وأنه تم تجنيدهم للعمل لحساب الحزب وكتابة تقارير عن الأصدقاء والزملاء كانت التقارير هى أسمى مهمة حزبية، والحق أقول ان كل اخواننا من البعثيين المصريين أدوا المهمة على أكمل وجه، ولكن أغرب هؤلاء جميعاً كان مجدى ميخائيل الذى كان يظن وكل ظنه إثم انه مبعوث العناية الإلهية لقيادة الطلبة المصريين ورعايتهم والتحدث باسمهم والتحدث فيهم، فكان إذا  جلس فى أى تجمع طلابى أمسك بناصية الكلام وتحدث بكل ما هو تافه وفارغ، ولم يكن يجيد اللهجة المصرية وكانت لهجته العراقية أفضل منها، وهو عاشق لضرب الأمثلة لتأكيد معنى يقوله للدلالة على عبقريته وفلسفته الواسعة.. والعجيب فى الأمر أن كل الأمثلة التى كان يسوقها لم تكن تناسب أى معنى يقوله، فكانت دائماً على عكس السياق أو مناقضة للمضمون ولكنه كان يختتم كلامه برسم ابتسامة بلهاء وكأنه عقاد الزمان أو نجيب محفوظ الغربة والأيام السوداء فى المنفى، وكان لمجدى شقيق صغير يصحبه معه دائماً فى سيارته الفولكس، كان يكره عبدالناصر والسادات، ويرى أن الله سبحانه وتعالى لو أراد لمصر الخير لحكم فيها البعث العراقى وليس السورى ولجعل من أحمد حسن البكر وصدام حسين أصحاب الأمر والنهى فيها.. لقد كان أخينا مجدى منافقاً من طراز فريد وصاحب نفوذ حزبى بلا حدود، ولم يكن أحد يعرف السر وراء هذه الحظوة التى يتمتع بها أخينا مجدى، وقال لى بعض أصدقائه المقربين انه متحمس بشدة للحزب والثورة والسيد الرئيس والسيد القائد والسيد المناضل والسيد وبس. لسبب بسيط للغاية وهو أن مجدى لا يحمل أى شهادات من أى  نوع لا إعدادى ولا ثانوى، وأكدت الأيام صدق هذا الكلام، بدليل أن  الحزب والثورة والدولة العراقية كلها عندما انشغلت بحرب الخليج العظمى التى دارت رحاها بين العراق وإيران وشهدت كراً وفراً لا  مثيل لهما.. لم يعد أحد يهتم بهذه النماذج التى تسلقت الى الأعلى من خلال الانتماء بغير قناعة للحزب طلباً للمكاسب وتحقيقاً لأمانى لا يستحقونها.. أقول عندما انشغل الجميع بأمر الحرب تركوا هؤلاء يلقون مصيرهم المحتوم.. وكانت القوانين العراقية تقضى بأن من يرسب فى سنة دراسية مرتين يتم شطبه نهائيًّا من سجل الجامعات والمعاهد العراقية، وبالفعل لقى هؤلاء ذلك المصير الأسود وعاد البعض  منهم الى مقهى المربعة من جديد وآخرون اتجهوا للعمل كمساعدى جزارين وحلاقين، وعندما اشتدت الأزمة اضطر البعض منهم الى العودة الى مصر، والغريب أن كل واحد منهم عند عودته واصل هوايته فى كتابة التقارير فأبلغ عن الوحدة الحزبية وجميع أعضائها وكل أنشطتها  والمسئولين الذين تعامل معهم والمهام التى وكلت اليه، ومن خلال بعض الاصدقاء العرب فى الجامعة اكتشفت اسم رئيس التنظيم المصرى البعثى فى العراق وهو «ن» عيد، هذا الولد كان غير بقية أفراد التنظيم يستمع أكثر مما يتكلم ويسرح  كثيراً فى عوالم بعيدة وكأنه يؤنب ضميره على دخوله فى هذا الحزب الدموى، وهو متزوج من عراقية تعمل ممثلة فى التليفزيون العراقى، وعندما فكر فى العودة الى مصر نهائياً لم يحاول أحد أن يثنيه عن رأيه أو يجبره على البقاء فى العراق ولكن الحل العراقى كان دائماً متواجداً وحاضراً فقد مرت فوق سيارته البيجو عربة نقل بالمقطورة فاختلطت دماء وعظام ولحم «ن» بحطام سيارته عقاباً له على ما اقترفه بحق البعث والتنظيم، ولم يكن «ن» هو وحده الذى لقى هذا المصير المأساوى ولكن سبقه إليه آخرون ودفعوا الثمن غاليًا جداً، ولأننى اكتشفت ان هناك هجوماً حاداً على شخصى من قبل إخواننا البعثيين المصريين انتهت بأن طلب منى أحدهم الترشح لعضوية الاحتياط في اتحاد الطلبة المصريين ، وبالفعل فزت بالتزكية وفى اليوم التالى مباشرة تلقى السعدنى اتصالاً هاتفياً من المدعو «جبار» وهو أحد مسئولى مكتب مصر، هنأ فيه السعدنى قائلاً بسخرية: «مبروك ابنك أكرم كان يريد يصير زعيماً.. والحمد لله.. الله وفقه وحقق حلمه».. ثم راح يحكي للسعدني كيف وصلت إلى عضوية الاتحاد برواية مفبركة من الألف إلى الياء، وبعد أن أغلق السعدني التليفون ناداني وسألني عن حقيقة عضويتي بالاتحاد، فحكيت له ما جرى بالتفصيل، وحذرني من الاقتراب من هذا المقر أو أحد من أعضائه، وبالفعل نفذت أوامر السعدني حتى سافر إلى لندن وبعدها ذهبت إلى مقر الاتحاد ولقنت هؤلاء الأوغاد الذين أوقعوا بيّ درساً بليغاً في أصول الرجولة والجدعنة ولم يستطع أحد أن يرد على كلماتي القاسية، ولكن المحاضرة التي ألقيتها بلغت أدراج مكتب «جبار» مكتوبة وممهورة بأسماء عدد من الطلبة المصريين البعثيين، وكانت هذه هي نهاية العلاقة مع هذا التنظيم العقيم الذي لم يكن له هم سوى الدسيسة والوقيعة وكتابة التقارير والحصول على أي مكاسب مهما كان الثمن ومهما كانت التضحيات، ولذلك فقد اتجهت نحو إخواننا الفلسطينيين والكويتيين والعرب من كل مكان، وللحق كانت بغداد في تلك الأيام قبلة لكل العرب يدخلون بلا تأشيرة دخول، ولكن بعد أن تستقر وتقيم ويحصل المراد من رب العباد وإذا فكرت في الخروج فسوف تكتشف أن بغداد ينطبق عليها المثل القائل: «دخول الحمام مش زي خروجه»!!.. فعليك أن تحصل على تأشيرة خروج يسبقها بالطبع عشرات الخطوات من أجل الخروج فتشعر أنك وقعت في فخ رهيب.. وعلى هذا الأساس كان الطلبة العرب يتجهون إلى بغداد بالعشرات طلباً لدخول الجامعة، وكان عدة مئات الألوف من المصريين البسطاء يحجون إلى العراق طلباً للعمل والحياة فانتشروا في كل بقاعها.. المهم أن الطلبة العرب كانوا أكثر سماحة معي ولم يكن لهم أي مأرب في كتابة تقارير يومية تخص شخصي الضعيف، فكانت الصداقة من أجل الصداقة، وقد كان أقرب الجميع إلى قلبي ولد من أهل فلسطين وبالتحديد من الضفة الغربية من عائلة البظ اسمه كمال، وهو حاد الذكاء، شديد الأناقة، وسيم لدرجة أن بنات كلية الإدارة والاقتصاد يطاردنه للفوز بصداقته، ولم يكن كمال بعثياً ولكنه دخل الجامعة بتزكية من إحدى المنظمات الفلسطينية الموالية للعراق، ولم يكن له في السياسة من قريب أو بعيد، ولم يكن لكمال أقارب في العراق ولذلك وبمجرد انتهاء الدراسة في نصف العام كان يتجه من العراق إلى الأردن، ومن هناك إلى الضفة الغربية، وقبل أيام من بدء الدراسة كان كمال يودع أهله ليقطع رحلة العودة من الأراضي المحتلة نحو الأردن ثم العراق، ولكنه اكتشف انه في حاجة إلي قضاء عدة أيام ربما تتحول إلي عدة أسابيع في الأردن ثم مثلها في العراق، لا أقصد الأردن الدولة ولا العراق البلد، ولكن في أقبية أمن الدولة ومقرات وسجون المخابرات في البلدين، ولم يكن كمال قد ارتكب جرماً أو شارك في عمل إرهابي أو حتي فكر مجرد التفكير في الوثوب إلى السلطة في البلدين الشقيقين، ولكن كل ما اقترفه كمال من جرم انه أراد أن يصل صلة الرحم بينه وبين أهله فاضطر لقطع كل هذه المسافات ليصل إلى حلمه ومراده ويلقي نظرة علي الأهل والخلان والأصدقاء ويشم رائحة الطرقات التي تربى فيها، وكانت التهمة التي تطارد كمال دائماً هي ما علاقته بالأجهزة في العراق.. سواء أجهزة الأمن أو المخابرات أو صلته بحزب البعث العربي الاشتراكي.. وطبعاً كانت هذه التهم توجه إليه من قبل السلطات الأردنية.. ونفس الشيء الخالق الناطق يحدث له كلما حطت قدماه الأراضي العراقية فتتلقفه أجهزة الأمن، وتبدأ المأساة الكبرى وتصبح نفس الاتهامات والجرائم في مواجهة كمال ولكن في الاتجاه الآخر.. فيحاكم بتهمة انه موالٍ لأجهزة الأمن والمخابرات الأردنية، وغاب كمال وصفي البظ عن الدراسة لأكثر من شهر ونصف الشهر وفاته الشيء الكثير من العلوم، وعندما تأخر في عودته تصورت انه سحب أوراقه وربما غادر إلي مكان آخر.. ولكننا ذات يوم وجدنا كمال وصفي بيننا وأقمنا له حفلاً كبيراً في كافيتريا الكلية.. ولكنه لم يكن حاضراً.. صحيح انه كان معنا بجسده ولكن فكره وعقله وخياله كان سارحاً في ملكوت آخر.. سألته عن سر هذه النظرة الحزينة التي تكسو عينيه، فأجابني: سوف أحكي لك كل التفاصيل ولكن ليس الآن.. وبالفعل حكي لي كمال عن عملية هوان وذل واحتقار لصنف البشر تمارسها أجهزة الأمن العربية لكل من يعبر حدودها متجهاً إلي عاصمة عربية أخرى باعتبار أن العرب ليس لهم أعداء سوي صنف العرب، بدليل أن كمال الذي حمل التأشيرة الإسرائيلية على هويته الفلسطينية لم يجد أي معارضة ولم يستوقفه أحد في الأراضي المحتلة أو يوجه إليه سؤالًا أو عتابًا بل إن معاملة السلطة الإسرائيلية له كانت ومع الأسف الشديد في منتهي التحضر احترموا آدميته وتفهموا ظروف دراسته في الخارج وسهلوا مهمته في الأراضي المحتلة، وهو متجه إليها أو مغادر لها.. وبأسى وحزن روى لي كمال كيف أن أجهزة الأمن الأردنية ضربته وعذبته لتأخذ منه اعترافاً بأنه عميل بعثي وانه قادم لغرض ما في نفس يعقوب.. وظل كمال صامداً لأكثر من ثلاثة أسابيع كان طعامه هو الخبز وشرابه هو الماء والضرب علي ودنه ليل نهار، وعندما أصاب الإعياء جلاديه قرروا الافراج عنه لا إلى الحرية ولكن إلى زبانية البعث العراقي الذين أذاقوه المر والعذاب بالألوان.. ولأن النظام العراقي كان شديد البأس والقوة فقد أمضي كمال في سجون الأجهزة الأمنية خمسة أسابيع ولم يشأ أن يحكي ما حدث هناك بالتفصيل لأن كل كلمة مسموعة وكل كلمة إذا سمعها غيرك فسوف تتحول إلى كلمة مكتوبة في تقارير، وبالطبع سيضع صاحب التقرير من خياله الخصيب بصمات ستكون كفيلة بأن تذهب بسعادتك إلي العالم الآخر.. وفي نهاية الحفل ارتكب كمال وصفي حماقة لا تغتفر عندما أخرج من محفظته العملة الإسرائيلية الجديدة «الشيكل» ولفت الأنظار إليها عندما ناولها لصديق يجلس في الطاولة التي أمامنا وحاصرتنا الأنظار من قبل الطلبة العراقيين وما هي إلا دقائق معدودة وكان أمن الكلية يحط بالطاولة التي نجلس فيها وطلبوا منا جميعاً برابطة المعلم أن نذهب معهم.. ولكني رفعت صوتي إلى أقصي حد ممكن رافضاً الذهاب وأنا أهددهم بالوصول إلى أكبر شنب في الدولة فتركوني وأمري، وبعد أن تشاوروا مع كبيرهم أخذوا كمال بمفرده وغادروا إلى حيث لا نعلم!!