عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

عندما تقدمت بأوراقى لمكتب التنسيق الجامعى اكتشفت أن جميع كليات العراق تحولت إلى كليات مغلقة، ولابد لكى تدخل الجامعة أن تكون بعثيًا أو أن تتم تزكية سعادتك من قبل قيادة كبرى فى الحزب أو فى مجلس قيادة الثورة.. وهنا تذكرت كلمات واجتماعات الولد رئيس الحزب فى المدرسة والذى نصحنى بالانضمام إلى الحزب فى الثانوية العامة إذا ما أردت أن ألتحق بالجامعة، ولذلك فقد جاءت البشرى من أحد أصدقاء الولد الشقى وهو الكاتب الكبير أحمد عباس صالح الذى دعانى لزيارته فى منزله، وهناك صارحنى بأن السيد طه ياسين رمضان شخصياً هو الذى سيوقع على أوراق التحاقى بالجامعة، ولهذا فإن مسألة قبول الأوراق أصبحت شبه منتهية.

وبعدها بأيام قام أحد موظفى مكتب مصر يطلب السعدنى الكبير ودعاه لزيارته فى المكتب إذا سمحت ظروفه بذلك.. وبالفعل ذهبنا معاً لمكتب مصر، وهناك استمعت لذات الكلمات التى سبق أن رددها العم أحمد عباس صالح بأن السيد طه ياسين رمضان تكرم وتفضل وتنازل ووقع على أوراق التحاقى بالجامعة، وهو أمر استثنائى نظراً لعدم بعثيتى وقلة قوميتى وانعدام حسى الوطنى، ذلك لأنك إما أن تكون بعثياً أو أن تكون راجل مش ولابد!! وشكر السعدنى الرجل بنبرة صوت تحمل من الاستنكار والشجب أكثر مما تحمل من الثناء والشكر، وفهم الرجل مقصد السعدنى، وفتح درج مكتبه وأخرج ورقة، وهو يقرأ ما فيها، قال موجهاً كلامه للسعدنى: «إيش لون شفت الفلوجة أول أمس يا أستاذ محمود؟!» وهنا أسقط فى يد السعدنى فقد قمنا بالفعل بزيارة الفلوجة مع أحد أصدقاء السعدنى من العراقيين وهو أبو سعد، وهو رجل يحمل وداً خالصاً للعصر الملكى وكلما شاهد صدام حسين خطيباً أو أحمد حسن البكر وسط جموع وحشود من أهل العراق يصفقون بحرارة، كان دائماً يرد «صفقوا يا خوان الجد!! من الستينيات وانتوا تصفقوا.. نابكم إيه من التصفيق؟!».

ولم يكن أبو سعد على علاقة ود مع البعثيين على الرغم من كونه قريباً من طارق حمد العبد الله وهو مدير شئون الرئاسة أيام أحمد حسن البكر والعين التى زرعها صدام فى قصر البكر لمعرفة كل شىء وأى قرار وكل مرسوم، وقد كافأه صدام بتعيينه أميناً لسر مجلس قيادة الثورة بعد ذلك، ولكن أبو سعد على الرغم من ذلك كان يبادل جميع المسئولين العراقيين كرهاً لا مثيل له، وظن السعدنى أن ذهابه مع أبو سعد إلى الفلوجة قد يفسر على أنه يتقرب من أعداء الثورة.. ولذلك فقد هب السعدنى ثائراً فى وجه المسئول الثانى فى مكتب مصر قائلاً: هو أنا متراقب ولا إيه؟! ولكن الرجل أطلق ضحكة عصبية.. وهو يقول: هذا بلدك يا أبو أكرم تروح وين ما كان بكيفك أنا بس أردت أسأل الفلوجة أعجبتك ولا لأ؟!.. وهنا ثارت ثورة السعدنى وهو يشرح للمسئول إياه أن سر وجوده فى العراق هو فقط من أجل الانتهاء من دراسة العيال.. وأقسم بالطلاق أنه لن يخرج من منزله طالما أن كل حركاته وسكناته تحت المراقبة.. ومن غباء المسئول العراقى أنه أكد الأمر أكثر للسعدنى عندما ذكره بأنه كان مراقباً من قبل نظام ناصر والسادات معاً باعتراف السعدنى نفسه!! فلماذا الغضب لكون تحركاته مرصودة فى العراق؟!!

وعاد المسئول إياه ليسأل السعدنى عن موعد مغادرته إلى لندن وعن أحوال مجلة 23 يوليو، فأجابه السعدنى بأن خلافاً حاداً نشب بينه وبين نور السيد شريكه فى إدارة التحرير ولذلك فإن إقامته فى العراق سوف تطول هذه المرة ربما لشهر أو شهرين، وقام المسئول العراقى بإخراج ورقة صغيرة من جيبه ومدها للسعدنى وهو يقول: «أرجوك يا أستاذ هذه الورقة تخصنى عندما تسافر وتعود بالسلامة لا تنساها».. وأمسك السعدنى بالورقة ليقرأ ما فيها ولكن الرجل بلهجة حادة طلب منه عدم الاطلاع عليها الآن وأن يحتفظ بها كما هى فى جيبه.. وقام الرجل بمد السعدنى بكل الجرائد والمجلات المصرية الصادرة خلال أسبوع. وكانت هذه الجرائد والمجلات فى العراق مثل الحشيش والأفيون لا يمكن العثور عليها. وبمجرد أن ركبنا السيارة أخرج السعدنى الورقة من جيبه وقرأ ما فيها.. ثم قال بصوت مسموع: يا ابن الشـ.....! فضحكت من الأعماق وسألته.. الورقة فيها إيه؟! فأجاب: ده كاتب قايمة بدل على كرفتات على شنطة سامسونايت على فساتين سهرة لمراته وعياله.. فقلت له: الله.. لما هو مرتشى كده.. إيه الرعب اللى عملهولنا ده؟!! ولم يجب السعدنى ولكنه أمسك بالورقة وحفظها فى جيبه وهو ينظر نظرة تعدت ما حولنا وكأنه سافر بخياله إلى أماكن وأزمنة أخرى!! وبالفعل اعتكف السعدنى فى داره لم يغادرها إلا للشديد القوى وشعر أنه يعيش فى سجن كبير.. فقد حدث خلاف حاد بينه وبين نور السيد الذى مال بعض الشىء إلى مغازلة النظام الليبى، وهو أمر لم يعجب السعدنى ووقف ضده بكل قوة، ولكن السعدنى بحاسته التى لا تخطئ أدرك أن الخلاف قد يقوده إلى خسارة صديقه إلى الأبد، ولذلك قرر الابتعاد عن الساحة وترك الأمر برمته لنور السيد وظل السعدنى فى بغداد لمدة شهرين انحدر خلالها مستوى المجلة وكان المؤشر بالنسبة للتوزيع فى ازدياد غير طبيعى، ولكن فى الأعداد التى تولى مسئوليتها نور السيد بلغت الحضيض، حيث تراجع التوزيع بشكل خطير وهو الأمر الذى دعا نور السيد للمجىء إلى بغداد خصيصاً لمصالحة السعدنى فى حديقة منزلنا.. كان اللقاء حول طاجن السعدنى والذى شاركه فى إعداده نور السيد وحدث عتاب بين أصدقاء العمر ولكن على طريقة السعدنى.. الذى صارح نور قائلاً: أنت شايف الشجرة اللى هناك دى؟.. فأجابه نور قائلاً: مالها.. فرد السعدنى: روح شوفها كده!! فقام نور السيد واقترب من الشجرة وتفحصها جيداً ثم عاد ليقول: دى شكلها عجيب جداً زى ما تكون عيانة فيها حاجات بيضا وحشرات غريبة ملياها.. فيقول السعدنى: طيب أعمل لها إيه؟! ويرد نور: لو غالية عليك قوى شوف لها فلاح ولا مهندس زراعى.. ويسأله السعدنى: يعنى أنت ما تعرفش ولا تفهم فى الشجر ولا فى الزراعة. ويجيب نور: هو حد قالك يا عم محمود إنى كنت فلاح ولا بأفهم فى الزراعة ولا إيه!! ويعلق السعدنى: ما هى الصحافة برضه مهنة وحرفة ولها ناسها وأنت بتفهم فى الصحافة بالضبط زى ما أنا بافهم فى اللغة اليابانية.. ويضحك نور السيد ولا يعلق.. ثم يعاود السعدنى حديثه وبحماس شديد: أما فى السياسة بقى.. فأنت الخالق الناطق زى.. (..أمى).. وذكر السعدنى لفظًا لا يمكن نشره!! وهنا انفجرت من الضحك ووقعت على الأرض.. فى حين كتم نور السيد ضحكة من الأعماق ولكنه أطلقها بعد أن استعصى عليه كبتها، ثم توجه ببصره نحوى وهو يقول: عجبتك الحكاية دى قوى.. ثم عاد إلى السعدنى وهو يقول.. شوف يا عم محمود.. أنا غلطت وأى إنسان معرّض للخطأ والغلط لكن الكارثة اللى أنا وقعت فيها إنى غلطت معاك وعارف أنى مش ح أخلص من لسانك مهما عملت علشان كده أنا جيت لحد عندك فى بغداد.. وقام نور وطبع قبلة على رأس السعدنى، وهو يقول: حقك علىَّ وغلطة وراحت ومش راح تتكرر أبداً.. وسألنى السعدنى أن أحضر من الداخل عدداً من المجلة وقام بتصفحه وقام ووقف عند صفحة معينة وناولها لنور السيد وهو يقول: فى صفحة واحدة 3 صور للقذافى.. ده كلام حد يعمله دا؟!

وهنا يجيب نور السيد: إنها غلطة تخص «فلان».. وكان فلان هذا «ج» عيناً لبعض أجهزة الأمن ليس فى مصر وحدها ولكن أيضًا لبعض الأنظمة العربية.. ويضيف نور: لو عاوز نرفته أنا ما عنديش أى مانع.. ولكن السعدنى اعتدل فى جلسته وهو يقول: شفت بقى إنت راجل «خُشنى» بصحيح.. أنا جايب الجدع ده مخصوص علشان أعرف مصر أنا باعمل إيه.. ووجوده أفيد لنا ألف مرة من عدمه.. لأنه عارف إحنا بنشتغل إزاى ومين اللى بيكتبوا معانا والفلوس اللى بتمول المجلة جات منين.. وأراد نور السيد أن يدير دفة الحديث نحو أى اتجاه آخر فسأل السعدنى وإخواننا هنا فى العراق إخبارهم إيه!! وينظر إلى السعدنى ويقول روح هات الورقة إياها.. وذهبت وأحضرت الورقة التى سلمها المسئول فى مكتب مصر للسعدنى.. وناولها السعدنى إلى نور السيد وكانت هى نفسها الورقة الخاصة بقوائم الطلبات التى تخص مسئول مكتب مصر وقراها نور السيد وعلم بما دار بين الرجل والسعدنى وطلب أن يقوم هو بتلبية احتياجات الرجل ولكنه توقف قليلًا وهويقول: أهى الحكاية دى مش بس موجودة فى مصر دى يظهر أنها عادة فى العالم العربى كله يا عم محمود.

ويرد السعدنى قائلاً: بس علىّ الطلاق بالثلاثة هدفّعه الثمن غالى قوى.. ثم أحضر السعدنى الطاجن الشهير وتناولنا العشاء وقمت بتوصيل العم نور إلى حيث يقيم فى أحد فنادق بغداد فى منطقة أبونواس، وفى الطريق صارحنى نور السيد قائلاً إن غلطة عمره الكبرى هى أنه استعدى السعدنى عليه.. فهو يحب السعدنى ويعتقد أن حياته تغيرت إلى الأفضل بعد أن صادقه، وفى أقصى لحظات حياته كآبة، كان السعدنى هو البلسم المداوى لجراحه، واكتشفت أن أولاد الحلال فى لندن كان لهم دخل كبير فيما جرى وأن نور فضل عدم ذكر وقائع أو أشخاص حتى لا يفترسهم السعدنى عند عودته لرئاسة تحرير مجلة «23 يوليو».. وكان نور السيد قد طلب من السعدنى أن يرتب للقاء أى مسئول عراقى، ولكن السعدنى صارحه بأن المسئولين اللذين يعرفهما وهما طارق عزيز وطه ياسين رمضان يريدان التخلص منه لأسباب مختلفة.. وأن المسئول الوحيد الذى لا يزال يحتفظ بعلاقة ودية معه هو السيد نعيم حداد عضو القيادة القومية لحزب البعث، وبالفعل ذهب السعدنى ومعه نور السيد إلى مقر قيادة الحزب على مشارف حديقة الزوراء، وهناك التقينا بنعيم حداد وصارحه السعدنى بأن مسألة مغادرته للعراق لن تستغرق سوى عدة أسابيع، حيث انتهى الخلاف مع نور السيد وأن العام الدراسى القادم ربما يكون آخر موعد لوجوده فى العراق هو والأسرة بعد أن ناصبه الجميع العداء.. وطلب السعدنى إبلاغ هذا الأمر للرئيس صدام حسين.. ولم تمض عدة ايام على هذه المقابلة حتى جاءت مكالمة من القصر الجمهورى من السيد صباح سلمان على ما أذكر وهو السكرتير الصحفى للرئيس صدام حسين، وقال للسعدنى كلاماً محدداً وهو أن العراق بلده وناسه هم أهله وأن السعدنى حر فى أن يغادر أو يمكث فى العراق وأن أحدًا مهما طالت قامته لن يستطيع إيذاءه لأنه ضيف على الشعب العراقى والرئيس العراقى، وحكى السعدنى لسكرتير الرئيس السخافات التى يتعرض لها سواء من طارق عزيز أو طه ياسين رمضان، وجاء رد الرجل حاسمًا وسريعًا وهو يقول: ولا يهمك منهما.. وعلى العموم سوف نرتب موعدًا للقاء الرئيس وعندها تستطيع أن تبوح له بما يؤرقك من هذين المسئولين.. وبالطبع علمت أوساط نافذة بأمر هذه المكالمة ولذلك تغيرت النبرة والمعاملة من الضد إلى الضد.. وأصبح للسعدنى وضع خاص داخل مكتب مصر، فهم يتصلون بنا لمعرفة مواعيد سفره أو وصوله من أجل تجهيز وإعداد فريق من المرافقين لوداعه أو استقباله وكانوا جميعاً من مكتب مصر التابع لطه ياسين رمضان، ولكن ما هى إلا عدة أسابيع ونحن فى انتظار دخول الجامعة حتى سمعنا وشاهدنا عبر التليفزيون العراقى دخول القوات المسلحة العراقية إلى الأراضى الإيرانية بعد فترة قليلة من قيام الثورة الإيرانية بقيادة الإمام الخمينى، وتقرر تأجيل الدراسة لأجل غير مسمى، وتوغلت خلال شهرين القوات العراقية داخل الأراضى الإيرانى حتى بلغت مدينتى المحمرة وعبدان، ليعلن التليفزيون عودة الأراضى العربية إلى الأبد، إلى أحضان العراق، وارتفعت أسهم صدام حسين فى العالم العربى باعتباره شاه الخليج الجديد الذى حل محل رضا بهلوى.. وعندما قابل السعدنى مسئولاً كبيراً فى مكتب مصر، وسأله عن جدوى هذه الحرب والمدة المحتملة لها، أجابه وكأنه طاووس يزهو بنفسه: «إنها تماماً أشبه بالحرب الشهيرة بينكم وبين إسرائيل المعروفة بحرب الأيام الستة سوف تستمر هذه الحرب على أقصى تقدير لمدة 3 شهور تستقر فيها أوضاع قواتنا فى البلدان المحررة وتتحول فيها القضية إلى الأمم المتحدة ولن يتم البت فيها على الإطلاق وسيبقى الوضع على الأرض على ما هو عليه إلى الأبد».. ولكن السعدنى أخرج صوتاً لم يعجب المسئول العراقى.. فقال للسعدنى: ليش تسوى ها الشىء يا أبوأكرم؟! فأجابه السعدنى: لأن إيران أمة عظيمة وبلد صاحب حضارة وعنده ناس وفيه بترول وإمكانياته تسمح له بالصمود والتمويل لحرب طويلة، وبعدين الحرب حتى هذه اللحظة يخوضها على الطرف الآخر الحرس الثورى الإيرانى، يعنى الجيش الإيرانى لم يدخل الحرب بعد، وعلى أى أساس -هكذا سأل السعدنى- قدرتم بأن المسألة مش هتاخد أكثر من 3 شهور؟!.. ويرد الرجل: هذه تقديرات القيادة السياسية.. ويعود السعدنى ليسأل المسئول إيه عن أمور الدراسة وفتح الجامعات، فيقول له: إنها مسألة أيام لا أكثر ولا أقل.. وبالفعل خرج علينا مذيع عراقى شهير اسمه رشدى عبد الصاحب، ليعلن عن بدء العام الدراسى بعد أن تأخر لأكثر من شهرين كاملين وفى أول أيام العام الدراسى اكتشفت أن عدد الطلبة المصريين الموجودين فقط فى كلية الإدارة والاقتصاد يفوق العشرين طالباً، ولكن الاكتشاف الأخطر كان فى أن أغلبهم لم يحصل على الثانوية العامة وبعضهم كان أمياً أجهل من دابة، وكلهم فيما عدا النادر القليل فى حزب البعث العربى الاشتراكى، الله لا يرجع أيامه!!