رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

مذكرات الولد الشقى

ذات يوم جاءنا أحد الطلبة ودخل الفصل الدراسى فقابله مدرس النبات بترحاب شديد، واقترب الطالب من المدرس وهمس فى أذنه ببعض الكلمات التى رد عليها المدرس بكلمة يا أهلا وسهلا.. وأخرج الطالب إياه ورقة وراح يقرأ منها أسماء.. وكان اسمى أول اسم. وكان علاء عبدالرؤوف هو الثانى، واستأذن الطالب فى أن يصحبنا معه، وبالفعل تتبعناه ونحن فى دهشة من أمرنا فنحن الطالبان المصريان فى الفصل والمدرسة كلها، وعملية الاستدعاء أثارت الشك فى داخلنا.. لكن الولد إياه كان صامتا لا يجيب عن أى تساؤلات واكتفى بأن أشار إلينا بأن نتبع خطاه فقط دون تعليق. ودخلنا غرفة صغيرة بها مكتب يجلس خلفه شاب أكبر منا سنا، وبمجرد دخولنا أغلق الدليل الذى صحبنا باب الغرفة وقدم الأخ الجالس خلف المكتب نفسه على أنه رئيس اتحاد الطلبة فى المدرسة. وأضاف أنه على درجة رفيق بحزب البعث العربى الاشتراكى وكانت الكلمات تخرج من فمه بحماس وهمة منقطعة النظير، وبعد أن انتهى من تقديم نفسه قلت له: خير وسعادتك طلبتنا ليه؟! فأجاب بمنتهى الصراحة: نحن نريد أن نضمكما إلى حزب البعث العربى الاشتراكى، ولأنه واصل حديثه بنفس النبرة الحماسية الخطابية فقد ضحكت من أعماق القلب.. وهنا استوقفنى ليسأل عن سر ضحكى فقلت له: إنك ممكن أن تنطق اسم الحزب دون استخدام هذه اللغة المسرحية.. فاعترض بشدة وهو يقول: هذا هو الفارق بين الجد والهزل.. وهنا سألته عما يقصد؟ فأجاب بأن المصريين أحوالهم ليست على ما يرام بفضل هذه الطريقة الساخرة التى يأخذون بها الأشياء، وأن الله سبحانه وتعالى لو أراد بمصر خيرا لجعل لحزب البعث العربى الاشتراكى منفذاً لكم مصر، هنا رددت على أخينا المنفعل بدون داع بأن أهل مصر لا يعرفون شيئا عن حزب البعث العربى الاشتراكى، اللهم هؤلاء الذين حضروا تجربة الوحدة ومباحثاتها بين عبدالناصر، وميشيل عفلق، وقاطعنى الأخ إياه قائلا: تقصد الرفيق المناضل الأمين العام لحزب البعث العربى الاشتراكى ميشيل عفلق؟.. هنا أدركت أننى أمام شاب يحمل شهادة تخلف عقلى وأن سر تخلفه هو وجوده داخل هذا الحزب الذى يحكم العراق بشكل ليس له مثيل فى الدنيا بأسرها. المهم أن النقاش بيننا استمر لأكثر من خمس ساعات حاول خلالها الأخ المسئول فى اتحاد الطلبة أن يدخلنا زمرة حزب البعث، وأنا وعلاء مصران على أننا فى العراق لأسباب قاهرة وأن مسألة العودة إلى مصر حتمية وبالتالى فلن نفيد الحزب فى شىء ولكن الأخ إياه أكد لنا أن الاستفادة سوف تكون من نصيبنا.. وسألته: كيف؟ فأجاب: إنكما على أعتاب الدخول للجامعة ولا أخفيكما سرا بأن هناك قرارا سريا صدر من القيادة القطرية بأن تغلق جميع الجامعات العراقية على الحزبيين فقط لا غير، وأنه لن تكون هناك حالات استثنائية، ومع ذلك أصر علاء على رفض الانضمام إلى الحزب، وهكذا كان موقفى أيضاً.

واكتشفنا بعد إنهاء اللقاء أننا تأخرنا عن مواعيد الانصراف بثلاث ساعات كاملة كانت كفيلة بأن يقطع الولد الشقى بغداد طولاً وعرضاً بحثاً عن شخصى الضعيف، وعندما عدت إلى البيت وحكيت له ما جرى سبّ لى الأخضرين وهو يقول: أنا افتكرت حصلت لك مصيبة، يا أخى كنت قلت له آه هاخش الحزب وخلصت نفسك!! قلت للسعدنى الكبير: وبعدين ده فيه اجتماعات والتزامات وخوتة دماغ مالهاش لازمة.. فأجابنى السعدنى قائلا: كنت قلت آه وبعدين ماتروحش ولا حاجة، ماحدش حيقدر يعملك حاجة.. الحزب ده موجود فى العراق علشان يدوب حكاية القبلية ويلم العرب على الفرس على التركمان على البلوش فى كان واحد يجمعهم، واستعرض السعدنى التناقضات الرهيبة الموجودة فى العراق وهو يقول لى إن أصعب بلد فى العالم فى حكمه هو العراق بسبب وجود الأديان والأعراق والقبائل المختلفة.. فقلت له: لكنهم ركزوا على شخصين فقط.. علاء صاحبى المصرى وأنا.. فقال: وماله ابقوا قولوا لهم إن شاء الله حنفكر إدونا كتب نقرأها.. وماطلوا معاهم لحد ما أشوف إيه الحكاية!!

والشىء الغريب أن باسم جواد، الذى كنت أظنه أرفع مسئول طلابى اتضح أنه لا يساوى صفرا على الشمال أمام أخينا رئيس الاتحاد المتحمس، وصدرت تعليمات مشددة بمراقبة خطواتنا علاء وأنا لكن العام الدراسی مر بسلام واستطعنا الوصول إلى الصف السادس الإعدادى، يعنى الثالث الثانوى فى مصر، وبعد بدء العام الدراسى الجديد بعدة أسابيع خرجت مسيرات تندد بخيانة حافظ أسد - هكذا كانوا يسمون الأسد - ولا أدرى بالضبط ماذا فعل حافظ الأسد لكى تخرج المسيرات الطلابية تندد بأفعاله، لكنى اكتشفت أن هذا هو سلو بلدهم، فكل عدة أسابيع هناك مسيرات وتجمعات شعبية تخرج بأوامر حزبية إما للإشادة بقرارات الحزب داخل العراق أو التنديد بمواقف أعداء العراق فى الخارج.. وحدث أن جاء يوم طلبوا منا عدم الدخول إلى الفصول الدراسية والانتظار فى ساحة المدرسة حتى تأتينا أوامر جديدة، وكنا فى الدرس الثانى، والكتب أغلقوا عليها الفصول، ثم جاء رئيس اتحاد الطلبة وقال إن هذا اليوم هو أسود أيام العراق بل أكثر حزنا وألما وغما.. ثم أضاف: إن حادثا مأساويا رهيبا ومفجعا قد وقع للمتحدث الرسمى، وأن شعب العراق بأكمله وفى طليعته طلبة العراق لابد أن يخرجوا فى مسيرة حزنا على المتحدث الرسمى، وهنا همست فى أذن أحد أصدقائى من الطلبة العراقيين وكان اسمه باسل وقلت: بقى كل اللى بيحصل ده علشان المتحدث الرسمى مات.. أما لو الرئيس مات حيعملوا فينا إيه؟! وهنا أشار لى باسل بأن أخرس فقلت له: إيه الحكاية؟ فقال: يا أخى المتحدث الرسمى مات.. مات، فقلت له: ملعون أبوه يا أخى ما يموت.. بقى ده كلام؟! وهنا التفت إلىّ معظم الطلبة وقال أحدهم: ترى أنت ما راح تشوف خير منا ورايح!! وكان يقصد أننى لن أرى خيرا من هنا ورايح.

واكتشفت أن المتحدث الرسمى الذى ذهب ضحية لحادث سيارة ما هو إلا محمد الابن الأكبر لرئيس الجمهورية أحمد حسن البكر، والشىء الغريب أن السيارة النقل التى تسببت فى الحادث استطاعت الهرب دون أن يعثر لها أو لسائقيها على أى أثر. ورغم أن العراق خرج عن بكرة أبيه حزنا على محمد المتحدث الرسمى، فإن الأيام فيما بعد كشفت عن أن الجريمة كانت مدبرة ومنظمة وكان الهدف منها التخلص من النفوذ القوى الذى كان يملكه الابن الأكبر للرئيس العراقى، وكانت عملية الاغتيال واحدة ضمن سلسلة طويلة من مخطط شيطانى وضعه الرجل الخطير فى العراق صدام حسين، الذى ملّ لعب دور الرجل الثانى وإذا به وهو فى الأربعين من عمره تطول أحلامه وترتفع ليصبو ليحل محل الرجل الأكثر حبا واحتراما وشعبية فى العراق وهو الرئيس أحمد حسن البكر.. المهم أن جميع الطلبة خرجوا فى ذلك اليوم ولكنى ومن خلال شباك صغير جدا استطعت أن أدخل الفصل الدراسى وأن أجمع كتبى وأغراضى فى نفس الوقت الذى وقف فيه أحد الطلبة وهو باسل يرجونى أن آتيه بكتبه ففعلت، وخرجنا مع الطلبة من باب المدرسة وهم يهتفون بهتافات أشبه بالروح والدم نفديك يا أبومحمد.. وتركناهم - باسل وأنا - وأصواتهم ترتفع إلى عنان السماء.. وبالطبع خرجنا - باسل وأنا - لنصيع فى شوارع بغداد بعيدا عن أماكن تجمع المسيرات والخطب الرنانة، فمسألة موت المتحدث الرسمى لا تعنينى فلم أحزن لوفاته وبالتالى لم أشارك فى المسيرات، ولكن والحق أقول إننى ابتهجت للأمر لأننا خرجنا فى فسحة نطوف شوارع العاصمة العراقية، وعندما أدركنا الإرهاق من كثرة المشى عدنا إلى منازلنا وفى اليوم التالى وجدنا أنفسنا ممنوعين من دخول الفصل الدراسى، وصارحنا الناظر أو المدير بأن هناك تحقيقا موسعا على أعلى المستويات بسبب تخلفنا عن المشاركة فى مسيرة فقيد الوطن المتحدث الرسمى، وفى سرى لعنت أبو اليوم الذى مات فيه المتحدث الرسمى، فقد استغرق التحقيق خمسة أيام كاملة منعونا خلالها من حضور أى درس وبالتالى رسبنا فى جميع الامتحانات التى أجريت عن عمد خلال فترة التحقيق، وأرغموا صديقى باسل على الاعتراف بأننى الذى أغريته بعدم المشاركة فى المسيرة واكتشفت أن دخول امتحان آخر العام أصبح فى حكم المستحيل لسبب بسيط وهو أن النظام فى العراق مختلف، فلكى تدخل امتحان آخر العام فى الفصل السادس الإعدادى لابد أن تنجح فى جميع المواد فى امتحانات نصف العام وامتحان التجربة الذى يسبق الثانوية العامة، وبالطبع كانت نتيجة جميع الامتحانات التجريبية الأخيرة التى أداها الطلبة أثناء فترة التحقيق هى صفر من مائة فى جميع المواد، وعند استخراج المتوسط الحسابى اتضح أننى راسب فى أكثر من مادتين، تقريبا ثلاث مواد بما لا يسمح لى بأداء امتحان آخر العام، وكان الولد الشقى قد غادر العراق فى تلك الأيام متوجها إلى لندن، وكان السادات قد أطلق مبادرته الشهيرة لزيارة إسرائيل وقام بزيارة لسوريا لأخذ تأييد الرئيس حافظ الأسد يومها انقلبت الدنيا فى العراق وخصص التليفزيون العراقى جميع قنواته لكى يلعن السادات وأطلقوا عليه لقب «أبورغال» وهو الرجل الذى دل أبرهة الحبشى على طريق الكعبة.. وتحولت الحياة فى العراق إلى مسيرات فى مسيرات، فقد ألغوا الدراسة وكانوا يجمعون الطلاب فى كل يوم يتوجهون بهم إلى إحدى الساحات لكى يخطب فيهم فى كل ساحة خطيب، وبالطبع لم أتخلف عن مسيرة واحدة بعد المأساة التى وقعت على رأسى بفضل الغياب عن مسيرة المأسوف على شبابه المتحدث الرسمى، وكنت حريصا على التصفيق بحرارة أمام زملائى الطلبة، الحزبيين والبعثيين وأشد حرصا على تقدم الصفوف - صفوف المدرسة بأكملها - كلما خرجنا فى مهمة قومية للتنديد والشجب والاستنكار وكنت أشجب بكل ما أوتيت من قوة حنجورية لدرجة أن أحبالى الصوتية دابت وأصبحت عديم الصوت، ولكن كل هذا لم يشفع لى عند إدارة المدرسة لكى أتقدم لامتحانات آخر العام وإذا كان تخلفى بفضل ظروف قاهرة فقد رسب فى هذه السنة أفراد الشلة.. شلة الأربعة: عباس وعدنان وأحمد وأنا.. وعدنا إلى السنة الدراسية معا لكننا استطعنا أن نحكم سيطرتنا على الإدارة وعلى الطلبة بفضل شاب صغير عرفناه وانشكح لمعرفتنا جدا وتبين أنه يملك نفوذا فى العراق ليس له حدود!