عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

ونحن فى الطريق إلى بغداد، بدأت أغنية فيروز تتردد فى أسماعى «بغداد والشعراء والصور.. ذهب الزمان وضوؤه العطر».. ولكننى عندما نظرت إلى السعدنى تبينت شيئاً عجيباً.. فأنا لم أشهد الولد الشقى فى مثل هذه الحيرة وذلك اليأس وتلك المأساة، كان يقود السيارة وذهنه شارد يفكر فى أى مستقبل مظلم ينتظر أفراد هذه العائلة التى كتب عليها الرئيس السادات أن تتشرد فى بقاع الأرض.. لقد كانت الرحلة طويلة وكئيبة ومملة واستغرقت أربع عشرة ساعة بالتمام والكمال، وفى نهاية المطاف وصلنا إلى عاصمة الرشيد، بغداد التى سمعنا عنها وقرأنا ولم تكتحل عيوننا برؤيتها، ما أجمل ما شاهدنا من تمثيل وشوارع وبنايات ومناطق خضراء ونظام فى المرور يحترمه الجميع، الأوتوبيس الأحمر أبودورين، الذى لا وجود له خارج بريطانيا العظمى يزين كل شوارع بغداد، ولكن ما لفت الانتباه هو تلك اللافتات التى تحمل شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية.. ومن لا يعمل لا يأكل، وكلنا بعثيون، وإن لم ننتم.. جو أشبه بمصر أيام حكم الاتحاد الاشتراكى العربى، المهم أننا وصلنا إلى فندق اسمه «العباسى»، وهناك قام السعدنى بالاتصال برقم وزارة الإعلام العراقية، ورد عليه رجل اسمه أمير الحلو الذى جاء إلى الفندق، وعرض على الولد الشقى البقاء والإقامة فى بغداد، ولكن السعدنى أكد له أنه لا ينوى الإقامة فى بغداد وأنه سوف يغادر إلى سوريا ليشحن العائلة مع العفش بالبحر إلى القاهرة وبعدها سيبحث لنفسه عن مكان آمن بعيد عن بطش شاه إيران وغدر أنور السادات.. وحكى السعدنى لأمير الحلو كيف أن العائلة تم طردها مرتين، الأولى من الإمارات.. والثانية من الكويت، والغريب أن أمير الحلو ضحك من الأعماق ضحكة صافية وهو يقول للسعدنى: يبدو يا أبوأكرم أنك لا تعرف شيئاً عن النظام فى العراق.. نحن بلد لا يملى أحد إرادته علينا.. أنت فى العراق ستكون فى حماية العراقيين ولن يستطيع أى مخلوق أن يجبرك أنت وأسرتك على مغادرة بغداد اللهم إلا إذا قررتم أنتم بأنفسكم هذا القرار.. والحق أقول إن هذا الرجل -أمير الحلو- كان له من اسمه النصيب الكبير، بالفعل يمتلك صفات الأمير الطيب الودود إلى أبعد مدى وترك هذا الرجل أثراً طيباً لدى السعدنى، وبعد أن انتهت المقابلة مع الرجل عاد إلينا السعدنى، ليسألنا: تحبوا تقعدوا هنا يا أولاد ولا ترجعوا على مصر؟.. وبدون تفكير اخترنا الإقامة فى بغداد لعدة أسباب، فقد شاهدنا للمرة الأولى مجتمعاً عربياً بحق وحقيق.. نساء لا يتخفين وراء النقاب أو العباءة بل يلبسن نفس الرداء الذى تلبسه النساء فى مصر.. يقدن السيارات ويتمشين فى الشوارع ويركبن الأتوبيس، لقد بدت لنا عاصمة الرشيد هى الجنة بعينها، ولكن الأهم من ذلك كله أننا اخترنا البقاء فى العراق لسبب آخر هو أننا لو قررنا العودة إلى مصر فسوف نعود بمفردنا ونترك السعدنى وحده فى الغربة، ولم نكن نرغب فى الابتعاد عن الولد الشقى، وهكذا مكثنا أكثر من شهرين فى الفندق العباسى ببغداد، حتى جاء يوم وصحبنا أمير الحلو إلى منطقة اسمها الداووى، وبالطبع كانت كل بيوت بغداد عبارة في فيلات، فالامتداد والمعمار هناك أفقى وليس رأسياً ونادراً جداً ما كنت تشاهد عمارة فى الأحياء السكنية البعيدة عن وسط المدينة.. وفى ذلك المنزل لم نعرف أحداً من الجيران.. فقد كانت تحيط به حديقة رهيبة مسورة بأشجار الزيتون، وكان إيجاره أربعين ديناراً شهرياً، واتفق أمير الحلو على أن يكتب السعدنى مقالاً أسبوعياً فى مجلة «ألف باء» لقاء راتب شهرى بلغ 225 ديناراً، ولم يستطع السعدنى أن يرفض هذا الوضع ولسان حاله: «مجبر أخوك لا بطل»، وقال فلنجرب سنة إذا أعجبنا الوضع كان بها وإلا فسوف تذهبون إلى مصر وأروح أنا أشوف حالى فى حتة تانية.

واكتشفنا ونحن فى بغداد أن أحد أصدقاء السعدنى القدامى وهو الدكتور فاروق الدسوقى يعمل هناك فى الأمم المتحدة، وهو متزوج من سيدة فاضلة تربطنا بأسرتها علاقة أكبر من النسب والقرابة، إنها شقيقة العم أحمد طوغان صديق صبا السعدنى وعمره كله.. المهم أن أشجار الزيتون طرحت محصولاً عجيب الشأن وغزيراً بشكل لا يمكن تصديقه اندهش له السعدنى شدة وانشرح قلبه، فهو عاشق للزيتون المخلل فأمرنا بجمع الزيتون، وأحضر أكثر من عشرين برطماناً وطلب من الحاجة أن تقوم بعملية التخليل.. وقبل أن يبدأ العام الدراسى جاءنا العم فاروق الدسوقى والسيدة حرمه وأخبرانا بأن منزلاً مجاوراً لهما قد هجره سكانه ونستطيع أن نعزل إلى المنزل الجديد إذا أردنا. وبالفعل جمعنا أغراضنا وذهبنا إلى المنزل الجديد، وهناك كان المزيد من أشجار الزيتون فى انتظارنا عندما شاهدها السعدنى، قال: الله ده ربنا فتح علينا فى البلد دى كفاية الواحد يقعد هنا ويخلل زيتون.. وفى البيت الجديد بدأنا نتعرف على أهل العراق.. فقد كان فى نفس الشارع 30 فيلا، 15 على كل جانب، زارنا أهل الشارع أجمعين وأولهم سيدة اسمها أم سعد، كان ولدها يعمل ضابطاً فى الجيش وزوجها على المعاش، أقسمت أم سعد ميت يمين أننا لن نشعل الطباخ لمدة 30 يوماً. تقصد البوتاجاز. فقد كانت الحياة فى العراق فى سبعينيات القرن الماضى تشبه الحياة فى ريف مصر فى الخمسينيات كما قال لنا السعدنى الكبير.. بمجرد قدوم ضيف أو زائر أو ساكن فإن أهالى القرية يتولون عملية إطعامه لمدة شهر، وهذا ما حدث بالضبط فى العراق، كان كل بيت يبعث إلينا بالطعام كل يوم حتى جاء اليوم التاسع والعشرون وهو آخر أيام الضيافة سمحوا لنا نشعل البوتاجاز فى اليوم اللاحق، وتعرفنا على أهل الشارع أجمعين، ولكننا أحببنا بشكل خاص أم سعد وزوجها وأولادها وسيدة أخرى اسمها أم أحمد وهى أرملة مات زوجها وهى لا تزال فى شرخ الشباب، فقررت أن تهب حياتها للأبناء حتى بلغوا مراحل متقدمة من الجامعة، بينما كنا نحن فى مرحلة الإعدادى.. وقدم لنا السعدنى فى مدارس العراق وكان نصيبى أن أدخل إعدادية المأمون للبنين، وكان البيت الملاصق للمدرسة يشغله رجل مهم جداً وهو وزير التجارة الداخلية اسمه السيد طه ياسين رمضان، كان الحراس الذين يعملون على حراسته تميزهم جميعاً تلك الشوارب التى اشتهر بها رجال الأمن فى العراق، فمن شاربك يستطيع الإنسان أن يحدد هويتك، فأنت مثلاً تستطيع بلا أى مجهود أن تعرف شخصية المخبر فى مصر سواء من ملبسه أو مسلكه، من الجلابية والجاكتة أيام زمان أو البدلة السفارى فى تلك الأيام، لكن فى العراق الشنب هو العلامة الأكيدة والوحيدة وهو ليس «شنب» بالمفهوم الذى نعرفه عن الشنب فى مصر، ولكنه شىء أشبه بالباروكة وأحياناً ينزل الشنب على كنفى صاحبه، ومنذ ذلك اليوم الذى شاهدت فيه كتيبة الحراسة على طه ياسين رمضان أدركت أننا فى بلد يشغله تماماً موضوع الأمن، وفى المدرسة تعرفت وتشرفت بمعرفة العديد من الأصدقاء، منهم عدنان عبدالعزيز الذى كان أكبرنا سناً وأضخمنا جسماً وأقوانا عضلاً، ومعه كان هناك ولد اسمه عباس تظنه سلكاً كهربائياً من شدة نحافته وثالثهم كان أحمد عبدالسلام، وتكون رباعى لا ينفصل جمعنى بهذا الثلاثى شقاوة لا حدود لها ورغبة فى التمرد على أى قواعد أو قوانين أو تقاليد، وبالطبع اجتمعت داخلنا كراهية بلا حدود للدراسة ولا أخفيكم سراً أننى بمجرد دخولى إلى الفصل الخامس الإعدادى الذى يعادل الثانى الثانوى فى مصر كنت مثلى مثل الكرسى الذى أجلس عليه، فلم أفهم حرفاً واحداً مما كان الإخوة فى العراق ينطقون به وكنت أجيب عن أى سؤال أو أى كلام بابتسامة بلهاء، وبدت اللهجة العراقية وكأنها أشبه باللغة الصينية ولكن تشاء الأقدار أن أعثر فى ذات الفصل الدراسى على أحد أصدقاء الدراسة فى المرحلة الابتدائية، وهو علاء عبدالرؤوف الذى جاء والده للعمل فى العراق بصحبة الأسرة ولولا وجود علاء فى ذلك المكان ولولا هذه المصادفة العجيبة التى لا مثيل لها فقد تطوع علاء وعمل لدى شخصى الضعيف فى وظيفة الترجمان فكان يفك لى طلاسم اللهجة العراقية التى بدت ثقيلة مجعلصة ولكن بعد مرور شهرين فقط لا غير اكتشفت كم هى رقيقة هذه اللهجة وكم هى عنيفة فى ذات الوقت.. فالعراقى عندما يحييك يقول لك: هلو وردة، يعنى أهلاً يا وردة، وإذا قدم لك فاكهة كالتفاح مثلاً يقول لك: ادبح لك تفاحة.. وبعد أن تمكنت من فهم اللهجة انتشرت بين الطلبة وتوطدت علاقاتى معهم وكنا فى أوقات الفسحة نخرج خارج حدود المدرسة ونتبادل النكات والتريقة على خلق الله، وذات يوم جلس أحد الأصدقاء من فصل غير الفصل الذى ندرس فيه وهات شتيمة فى السادات، وكان الولد يقصد أن يداعبنى ولكننى أيضاً جاريته فى الدعابة فقمت بسب أحمد حسن البكر الرئيس العراقى ولكن الولد إياه واسمه قتيبة فتح على البحرى ونال من شعب مصر بأكمله فقمت بدورى برد التحية بأفضل منها واستعرضت قاموس حارة رابعة وسببت الشعب العراقى.. وهنا وقعت الواقعة.. فقد سمعنى أحد حراس طه ياسين رمضان ولعب بشواربه وهو دليل على الغضب العارم، هنا طلب منى قتيبة أن «أنهزم» يعنى أهرب، وأطلقت ساقى للريح وكأننى غزال يطارده سبع مفترس، وجرى الرجل خلفى وهددنى بالضرب بالنار، وبحركة بهلوانية صعدت سلالم الأدوار الثلاثة ولم يكن هناك مخرج إلى السطوح ولم يكن هناك سبيل للوصول إلى السطح ولكننى قفزت فى الهواء واستطعت أن أطلق فوق السطوح وهناك انبطحت على الأرض وانتظرت عدة ساعات حتى حان وقت خروج كل الطلبة وانصرفت الحراسة وجاءت أطقم جديدة بعد ذلك، وعندها قررت أن أعود إلى المنزل، وحمدت الله لأن الولد الشقى لم يكن بالمنزل وقد جئت متأخراً عن موعدى ساعتين أو يزيد وكادت دقات قلبى تفضحنى، فقد كانت مسموعة لكل من حولى وتغيبت عن المدرسة أسبوعاً كاملاً كنت أستيقظ فى الصباح ولا أذهب إلى المدرسة ولكنى أنتظر زملائى من بعيد وأدخل أحد المقاهى لأقتل الوقت فى لعب البينج بونج والبلياردو، وبعد أن مضى أسبوع بالتمام والكمال عدت إلى المدرسة وطمأننى صديقى قتيبة أن الحارس لم يعد موجوداً فى طاقم الحراسة، واكتشفت أن القوانين فى العراق تختلف تمام الاختلاف عن بقية العالم العربى، فهناك اتحاد للطلبة له سلطة تفوق سلطة المدرسين والإدارة معاً، وقد اقتربت وصادقت رئيس اتحاد الطلبة وكان اسمه باسم جواد وكنت أنطق اسمه بشكل اعتبره إهانة له فكلمة «جواد» بدون تعطيش الـ«ج» تعنى شيئاً آخر تماماً فهى مرادف لكلمة قواد ولكن بالعامية العراقية، وكان باسم يرجونى على الدوام أن أنطق اسمه بالشكل الصحيح وليس بالمصرى حتى لا يصبح أضحوكة الطلبة، ووعدت باسم أن أحاول ووعدنى بأن يرفع اسمى من كشوف الغياب، وهو الأمر الذى كان سيدفع بى إلى التهلكة لو لم يفعل باسم، فقد كان الحضور والانصراف هما أساس العملية التعليمية فى العراق وكان الانضباط على أشده، والنظام محترماً من الجميع، وكان المخطئ يواجه عواقب وخيمة بحق وحقيق، ولكننا وكما أطلقوا علينا عصابة الأربعة عدنان وعباس وأحمد وأنا استطعنا أن نعيش حياتنا بالطول وبالعرض وأن نهرب من المدرسة وقتما نشاء ونرفع الأسماء من كشف الغياب بالاتفاق مع باسم، واستطعت أن أتعرف على كل شبر من أرض العراق الذى أحببت أهله وناسه وشوارعه ومتنزهاته وشماله وجنوبه وشرقه وغربه.. شىء واحد فقط كرهته فى العراق هو حزب البعث العربى الاشتراكى، وهو الحزب الذى تسبب لى فى أزمة حرمتنى من سنة دراسية كاملة.