عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

كنا نعد الأيام بالثوانى والساعات انتظارًا ليوم 15 مايو من العام 1973 وهو يوم الإفراج عن الولد الشقى، ومن شدة الشوق إلى رؤية السعدنى متمتعاً بالحرية، كاد الأمر يتحول إلى أسطورة، فلم نعد نصدق أنه سيعيش معنا ووسطنا، كما كان فى الأيام الجميلة، ولكن يا سبحان الله الحلم تحقق، ولكن لدقائق معدودة، فقد كنا ذات يوم فى الطريق إلى سجن القناطر الخيرية نحمل للسعدنى الكبير عمود الطعام، الذى تعودنا أن نرسله إليه كل أسبوع، ولكن سيارة ضخمة من سيارات الشرطة اعترضت طريق سيارتنا الفولكس فاجن، الخنفسة الزرقاء، وأمرنا ضابط شرطة صغير فى السن وفى الرتبة أن نتوقف، وبالفعل امتثلنا لأوامره، وأخذنا جانب الطريق الأيمن بينما وقف الضابط بسيارة الترحيلات على الضفة الأخرى، فجأة نزل السعدنى مرتديًا ملابسه المدنية «البدلة والكارفتة»، وقام بالسلام علينا، ثم اتجه ناحية بائع برتقال واشترى منه اثنين كيلو، مع أنه لا يحب البرتقال، لكن السعدنى فى تلك اللحظة أراد أن يقتنص لحظة الحرية، فيستمتع بها كما ينبغى ويمارس طقوسه كما كان قبل السجن، ولكن الأمر كان شديد الغرابة بالنسبة إلينا، فكيف خرج من سجنه؟ ولماذا ارتدى لباسه المدنى؟ وعندما سألناه: إيه الحكاية؟ أجاب.. إنها المحكمة: قلت فى نفسى تانى يا عثمان!! محكمة تانى وحكم جديد وسجن آخر.. لقد خدعتنى أعصابى، فانهمرت فى البكاء، ولكن السعدنى احتضننى وهو يقول دى مؤسسة السيما ورئيسها رافعين علىَّ قضية وعمك عباس الأسوانى اللى بيترافع عنى فى القضية راح نكسبها بعون الله.. والشىء الغريب أن السعدنى هاجم مؤسسة السيما أيام كان رئيسًا لتحرير مجلة «صباح الخير» وشن عليهم هجومًا عنيفًا متسلحًا بالمستندات.. ولم يجرؤ أحد على رفع قضية ضد السعدنى وهو حر طليق والقلم بين يديه ولكنهم لجأوا إلى المحاكم بعد أن أصبح السعدنى مغضوبًا عليه من قبل النظام ورهين محبسه فى سجن القناطر، ولكنها كانت مناسبة أتاحت لنا لقاء السعدنى بعيدًا عن أسوار السجن.. فقد كنا نسافر إلى القناطر الخيرية كل أسبوع لكى نزور السعدنى ونصحبه إلى المحكمة مع عمى عباس الأسوانى والخال عبدالرحمن شوقى.

وكان العم عباس متفائلا إلى أقصى الحدود بأن البراءة ستكون من نصيب السعدنى، وأنا كنت أحب الأسوانى وأصدقه وأستمع إلى حديثه الممتع، وكأننى أستمع إلى مطرب يستطيع أن يدخل السرور والحبور إلى قلبك بطريقته الساحرة وتركيبه للكلمات، بحيث تطرب الكلمات قلبك وتدخل عليه سعادة ما بعدها سعادة.

فقد كان صوته عذبًا ومتميزًا ورناناً، وقد صدقت نبوءته وصدر الحكم فى صالح السعدنى، وجاء فى حيثيات الحكم الذى أصدره القضاء المصرى العظيم بأن مؤسسة السينما فى تلك الفترة كانت فاسدة، وأن القائمين على الأمور فيها كانوا بالضرورة فاسدين، وانتهت القضية وانتهى معها الحلم الجميل برؤية السعدنى وسط الناس فى دروب الحياة، وقد أصيب السعدنى بنوع من القهر بعد أن انتهت المحاكمة، كان يسجل بعينيه وذاكرته وقدرته على رسم صور البشر.. تلك النماذج التى صادقها وصادفها داخل السجن ولم يضع أوقاته هدرًا أو هباء، واستطاع أن يؤلف كتابًا شديد التميز عن هذه النماذج التى تمر بها داخل السجن ومضى وقته كله يفتش داخل هذه النماذج البشرية عما يميزها عن غيرها من البشر بمن فيهم المساجين والسجان وطبيب السجن والضباط والحراس، وفى الوقت نفسه أوشكت دراستنا فى الصف الثانى الإعدادى على الانتهاء، وبات على المدرسين الذين نزلوا فينا طحنا وضربًا أن يدفعوا الثمن، فهناك طلبة أقسموا بأغلظ الأيمان على أن ينتقموا من هؤلاء المدرسين الجبابرة، ولأننى لا أملك من أسباب القوة إلا لسانًا سليطًا فقد اكتفيت بالفرجة على أساتذة طالما أذونا وضربونا وأذاقونا الأهوال، منهم مدرس الإنجليزى الذى انضرب علقة ساخنة، وكان يستغيث بالمارة من أجل أن يخلصوه من الضرب على القفا والشلاليت التى انهالت على رأسه ومؤخرته فى ذات الوقت.

المهم أن الرجل فى وسط هذه المأساة نظر حوله، فوجدنى اتشقلب من شدة السعادة وأضحك حتى أكاد أستلقى على قفاى فى وسط هذه العلقة التى لم أر لها مثيلاً من قبل، فقد شاهدت أناسًا ينضربون ضرب غرائب الإبل ولكننى لم أشاهد أحدًا يأكل كل هذا الضرب من قبل، ووجدتنى وقد انشرح قلبى لأن هؤلاء الطلبة أخذوا بثأرى فضحكت كما لم أضحك من قبل.. فإذا بالأستاذ إياه يستجمع كل قواه ويزأر فى وجهى قائلاً: والله يا ابن.. لأربيك.. ولم يزدنى تهديده سوى مزيد من الضحك، فتحولت إلى الضحك الهيستيرى.. وزاد الطين بلة أن دعانى زميلى سيد مغربى إلى أن ألهف الأستاذ قلمًا على قفاه ولكننى عندما اقتربت منه خرج منه صوت ارتعشت له وارتعدت له فرائصى.. فأنا بجسدى النحيل الذى يشبه السلك الكهربائى إذا أقدمت على ضرب الأستاذ على قفاه، فهذه بالنسبة إليه هى الطامة الكبرى، والحق أقول إننى اكتفيت بأن اشهد عملية التهزىء التى جرت له وتحول الرجل إلى حطام بشرى، فأصبح أشبه بكلب عبرت فوق عظامه عربة كارو، فكان يزحف وهو يتلوى ويتأوه من شدة الألم.. حاولت أن أمد إليه يد المساعدة ولكنه نهرنى بصرخة لم أتبين هل هى كلام أم مجرد صوت فتركته ومضيت إلى حال سبيلى، وعندما ظهرت النتائج وجدنا أنفسنا وقد نجحنا وانتقلنا إلى الصف الثالث الإعدادى وهى المرحلة الأخيرة، ومنها سيكون الحلم إلى المرحلة الأعلى وهى الثانوية العامة.. لقد شعرنا بأننا ملكنا الدنيا وما فيها ونحن على أعتاب الشهادة الإعدادية.

فى تلك الأيام كانت مسرحية مدرسة المشاغبين قد أصابت شهرة لا مثيل لها بين غيرها من المسرحيات، وبلغ الطلبة فحواها وبعض من مقاطعها عن طريق شرائط الكاسيت، والحق أقول إن ما كان يحدث بين الطلبة فى مدرسة أبوالهول فى شارع خوفو والأساتذة يفوق عشرة أضعاف ما جاء فى مدرسة المشاغبين، وما حدث مثلاً لمدرس الإنجليزى خير دليل على ذلك، فالرجل يشرح فى طلاسم ويتحدث بلغة بينها وبين الطلبة بون شاسع، فهم أصلاً لا يعرفون من العربية شيئاً وبينهم وبين قواعد اللغة العربية عداء لا مثيل له وسوء فهم، فما بالك وقواعد اللغة الإنجليزية، ولذلك فقد أمضى كل الطلبة السنة الدراسية، المدرس يشرح وهم فى واد آخر.

وكانت النتيجة ان الطلبة انضربوا طوال العام من مدرس الإنجليزى، وفى نهاية العام كان لا بد للمعادلة أن تكتمل، وأن يضرب الطلبة الأستاذ علقة ساخنة، سمعنا بعدها أنه هجر الدراسة وفتح كشك سجائر فى أحد الشوارع الفرعية فى حوارى الجيزة، وأنه كان يذهب إلى الكشك فى نفس توقيت المدرسة، ويغلقه أيضًا فى نفس مواعيد الانصراف، يبدو أن الرجل أراد أن يظهر أمام أهل بيته وكأنه لا يزال مدرسًا للغة الإنجليزية، ولكنه بعد العلقة إياها وضع نهاية لمأساة تتكرر كل عام وقد كان بالفعل قرارًا حكيمًا.. وفى الصف الثالث الإعدادى وقبل أن تنتهى الدراسة، وفى اليوم الرابع عشر من شهر مايو، توجهنا إلى وزارة الداخلية بشارع لاظوغلى من أجل استقبال السعدنى والعودة به إلى منزلنا بشارع البحر الأعظم بالجيزة.. فقد حان وقت الإفراج عنه بعد قضاء العقوبة عامين بالتمام والكمال، ولكن الذى حدث أننا أمضينا اليوم كله فى الانتظار، فقد كانت هناك مقابلات وإنذارات وتوبيخات نالها السعدنى من قبل بعض قيادات الداخلية، أما التحذير الأعظم فكان بعدم الاقتراب أو التفكير فى العودة إلى العمل السياسى أو الاتصال بالجماهير أو إعادة العلاقات مع أعضاء التنظيم الطليعى الناصرى السرى، وأن أى محاولة من هذا القبيل ستكون عواقبها وخيمة.. وبعد تلقى السعدنى الوصايا العشر أفرجوا عنه فى الثانية من صباح اليوم التالى، وفى طريق عودتنا إلى المنزل كان بصحبته العم صلاح السعدنى والخال عبدالرحمن شوقى، وكان حال صلاح يدعو إلى الشفقة، ولأنه شقيق السعدنى، فقد نال من الحب -عفوًا- العقاب جانبًا، ولذلك فإن السعدنى قد ربت على كتفى صلاح وهو يقول: معلش يا صلاح بكره تتعدل.. فقد كان صلاح ممنوعًا من العمل فى التليفزيون أو الإذاعة أو المسرح أو السينما، وكان هناك حظر غير مكتوب على التعامل مع صلاح.. فقد غضب الفرعون -السادات- على شخص العبد الفقير إلى الله السعدنى الكبير.. إذا غضب عليك الفرعون.. غضبت عليك كل الأجهزة وجميع المسئولين وجميع المؤسسات، وحتى جيرانك وأصحابك وبعض أهلك سوف ينضمون إلى طوابير الغاضبين، وسوف يلحق الأذى بكل الذين عرفتهم رحلة الحياة.. بل إنهم سيحاربون حتى جوز خالة سعادتك فى رزقه.. ويعلق السعدنى: مش كفاية إنه اتجوز خالتك لأ.. يعذبونه ويحاربونه ويمكن يتعقبوه ويراقبوه ويعكموه من قفاه لأن حظه المهبب أنه قريب سعادتك.

لقد ضحك صلاح لتفكير السعدنى الكبير وقال وهو يطمئنه بأن سمير خفاجى قد عينه مستشارًا فى مسرح الفنانين المتحدين، وأن الأمور على ما يرام، والعمل سوف يأتى، خصوصاً أن السعدنى الكبير خرج من السجن ولم يعد هناك خلاف مع السادات، ولكن الأيام أثبتت أن السادات لا ينسى أبدًا.. ولا يعفو على الإطلاق، فما هى إلا عدة أشهر وحقق الجيش المصرى أعظم انتصار عسكرى فى تاريخ مصر الحديث ضد أوسخ أصناف البشر من الإسرائيليين فى السادس من أكتوبر من عام 1973، فى هذا اليوم كنت أسير فى شوارع الجيزة والناس قد وقفت صفوفًا بينما سيارات الجيش تخترق هذه الصفوف بصعوبة بالغة، والناس تلقى عليهم الورد والحلوى.. مشهد اختلف كثيرًا عما حفرته الذاكرة لمشهد آخر فى الخامس من يونيو عام 1967، والذى ما زلت أذكره جيدًا.. فقد كان الولد الشقى يقود سيارته الفولكس الزرقاء وعلى كوبرى عباس شاهدنا الفنان الجميل وحيد عزت، فاستوقف سيارة السعدنى وهو يقول له -بعد النكسة بيوم واحد- إنت عارف يا عم محمود الجيش الأحمر ما دخلش الحرب ليه.. فقال له السعدنى ليه.. فأجابه وحيد عزت علشان جيشنا.. أحمر منه!! المهم أنه بعد انتصار أكتوبر المجيد أراد السعدنى أن يكتب كلمة يحيى فيها هذه الملحمة التى اشترك فيها الجيش والشعب، وطاف السعدنى على دور الصحف من أهرام إلى أخبار إلى جمهورية ولكن الرد كان موحدًا وصريحًا بأن مشكلة السعدنى مع الرئيس شخصيًا وأن عليه أن يحل المشكلة قبل أن يفكر فى العودة إلى الصحافة.. وذهب السعدنى إلى يوسف السباعى، عليه رحمة الله، وكان رد الرجل مطابقًا لرد رؤساء تحرير الصحف، وعاد السعدنى ليكتب مسرحية هزلية اسمها «4، 2، 4» كتبها خصيصًا لثلاثى أضواء المسرح سمير غانم وجورج سيدهم، ولكن تبين أن وضع اسم السعدنى كاتبًا ومؤلفًا أيضًا ممنوع، فاقترح السعدنى أن يكتب عليها اسمى كمؤلف، ولكنهم أيضًا رفضوا هذا الاقتراح، ولذلك فكر السعدنى طويلاً فى إيجاد حل لهذه المأساة، فقد خلق ليكون صحفيًا ولا شىء آخر سوى العمل فى الصحافة ولو أن السادات ظل على عناده هذا، فقد يصدأ القلم بين يدى السعدنى، وفى تلك الأيام عرض عليه صديق العمر عثمان أحمد عثمان عرضاً مغرياً وصارح السعدنى بأن صاحب العرض هو نفسه الرئيس السادات، الذى وصفه عثمان بأنه صاحب القلب الكبير وعندها ضحك السعدنى ضحكته المجلجلة، وهو يستمع إلى عرض عثمان أحمد عثمان بالعمل مستشارًا فى شركة المقاولون العرب، وعلق السعدنى قائلاً: علىَّ الطلاق بالتلاتة لو اشتغلت عندك مستشار صحيح يا عم عثمان ح تحصل كارثة عظمى، فسأله عثمان: كارثة إيه يا محمود؟ فأجابه: كل العمارات والبنايات اللى ح اشتغل لك فيها مستشار حتى تقع بعد أسبوعين بالكثير، وضحك عثمان وهو يسحب السعدنى من يده ويدعوه إلى مشاهدة مكتبه الخاص فى شارع عدلى حيث المقر الرئيسى للشركة.. فى تلك الأثناء كنا على أعتاب امتحان نهاية العام إذا لم تخنى الذاكرة، وللمرة الأولى نجلس تبعًا لأرقام الجلوس ونجلس على مسافات متباعدة مع بقية الزملاء بما لا يسمح بالكلام أو الاقتباس، وفى يوم الامتحان الأول للغة العربية اطلع الطلبة على ورقة الامتحان وأدركنا جميعًا استحالة ملء أوراق الإجابة بأى أجوبة، فقد جاءوا بأسئلة لم تمر علينا فى المقرر، ولذلك زمجر بعض الطلبة وقام أحدهم وهو صاحب العضلات المفتولة حسين بإخراج مطواة قرن غزال من بين طيات ملابسه وقام بغرسها على الدكة مما أثار حفيظة المراقب الذى نظر إلى زميله نظرة فهمها الأخير، فانسحب ثم عاد بعد قليل وبصحبته رجل يشبه جبار الجاهلية، طويل كأنه عمود سوارى عريض كما لو كان جزيرة وسط البحر، ملامحه غليظة، تكفى نظرة واحدة من عينيه للانسحاب من أمامه طلبًا للسلامة.. هذا الجبار أو الأوتوبيس البشرى نظر إلى حسين وهو يقول شيل المطوة دى من قدامك لأحسن أحطها فى «... »!! وبكل تواضع وتعاون رفع حسين المطواة وسلمها له.. هنا ضحك المراقب ضحكة خبيثة وأمر حسين بنظرة من عينيه بأن يتوجه إلى مكانه.. منذ تلك اللحظة لم يستطع أحد أن يفتح فمه بكلمة واحدة، وأدركنا أن العام الدراسى قد ضاع منا.. وأننا جميعا ذهبنا بعون الله وبفضل الكسل الجميل فى الكازوزة، وهباء ضاعت صرخات بعض الزملاء واستعطاف البعض الآخر، لدرجة أن أحدهم وكان اسمه ايهاب «ع» صرخ بالصوت الحيانى مستغيثًا بالمدرسين، وكنا نناديه بالبيه.. صرخ محمد فى وجه البيه يقول: يا سعادة البيه، والله العظيم لو سقطت أبويا ح يشغلنى عند الأسطى «لطيف» صبى ترزى، وهنا كانت البسمة الوحيدة التى مرت علينا خلال الامتحان، واكتفى البهوات المراقبون برسم ابتسامة باهتة خرجت بالعافية لتحتل مكانًا ضيقًا فوق الشفاه!!