رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

صدق كلام صديقي أحمد عزت الذي صارحني بأن أباه علم من مصادره الخاصة أن الحكم على «السعدني» سيكون بالسجن لخمس سنوات بالتمام والكمال، وبالطبع انتقل «السعدني» خلال فترة المحاكمة من معتقل كلية الشرطة إلى السجن الحربي إلى سجن القناطر الخيرية، وكان القانون يسمح بالزيارة مرة واحدة فقط طوال الشهر في غرفة مخصصة للقاء المسجونين بأقاربهم أشبه بصالة انتظار الركاب في محطة القطار، وكانت هناك زيارة ثانية تتم من وراء الأسلاك، وهي ولله الحمد زيارة لم يكتب لنا أن نقوم بها، والسبب أن المسئولين في السجن تبدلت أحوالهم.. فالحياة داخل السجن يتساوى فيها المسجون والسجان، الأيام كلها متشابهة، والروتين هو نفسه، والحال لا يسر عدوًا ولا حبيبًا.. والجميع يعيشون داخل الأسوار ولكنهم يقسمون الأدوار فهناك ناس تقوم بلعب دور الحارس وناس تلعب دور المسجون ولكن الجميع محابيس داخل الأسوار. ولكن «السعدني» عندما حضر إلي السجن أشاع جوًا من البهجة والسرور والتف حوله المساجين والضباط والجنود والعساكر على السواء، وكان للسجن مأموران أحدهما مسلم اسمه محمد صبحي والآخر قبطي وهو نظمي الجولي، وكان الأخير رجلًا في منتهي التواضع، رحيمًا بصغار المساجين رؤوفًا بأحوالهم، وكان إنسانًا بمعني الكلمة، ظلت علاقته بـ«السعدني» متصلة إلي أن أصابته الشيخوخة بأمراضها.. ومن خلال علاقات «السعدني» بالبشر تحولت وتبدلت أيضًا القوانين داخل السجن، فلم تعد هناك زيارة من خلف الأسلاك، وأصبحنا نتمتع بالزيارة مرتين في الشهر ونستطيع أن نجلب لـ«السعدني» كل أسبوع ما يشاء من مأكل ومشرب، وأحيانًا كانوا يسمحون لنا بالجلوس إليه لعدة ساعات، وفي السجن تعرف «السعدني» علي ضابط شاب في تلك الأيام هو النقيب محسن السرساوي، وكان رجلًا عسكريًا بمعني الكلمة ابن بلد بحق وحقيقي، وكان الضابط محسن السرساوي هو المسئول عن الجاسوسة المصرية هبة سليم التي أسقطتها المخابرات المصرية بمعلمة يحسدها عليها بقية أجهزة مخابرات الكون.. ومع ذلك فقد كان محسن السرساوي نبيلًا وإنسانًا بمعني الكلمة حتي مع الجاسوسة وهي في لحظة الإعدام فكما هو معروف في يوم الحكم تقوم إدارة السجن بالكشف على المحكوم عليه بالإعدام صحيًا ووضعه علي ميزان لقياس الوزن، ولكن محسن السرساوي أراد أن يخفي علي «هبة» موعد الاعدام فصارحها بأن وزنها زاد علي السجن وأن صحتها تحسنت عكس ما أصابه هو من أحوال فهي السجينة تعيش حياة أفضل من سجانها ولكن «هبة» اندهشت وقالت أنا وزني زاد فأكد لها الضابط «محسن» الأمر وهو يقول علينا أن نحتكم إلي الميزان، بالفعل تمت الإجراءات دون أن تشعر «هبة» بأنها تجري في طقوس حكم الاعدام!! وصعدت فوق الميزان لتؤكد للضابط الانسان محسن السرساوي انه ربما يكون هناك خطأ ما بالميزان لأن وزنها لم يزد منذ سنوات طويلة، المهم أن محسن السرساوي كان حريصًا علي أن يصافحنا في موعد الزيارة، خصوصًا انه من أشد المعجبين بالعم صلاح السعدني، ومضت الأيام بنا هادئة.. ولا أخفي انها كانت هانئة أيضًا في سجن القناطر لسبب بسيط للغاية وهو اننا كنا نجلس إلي «السعدني» في سجنه أوقاتًا أطول من تلك التي كنا نجلس فيها إليه وهو في كامل حريته.. إلي أن جاء يوم من أيام الزيارة السلكاوي ودخلنا إلي غرفة الضابط النوباتجي وأحضر الشاويش «السعدني»، وقبل أن نأخذه بالأحضان فوجئنا بالضابط ينهر العسكري في حسم: «مين اللي قال لك تجيبه هنا.. انت اتجننت؟!.. دي زيارة سلك اتفضل خده لمكان الزيارة»!

وتصبب العسكري عرقًا من شدة الحرج، ونظرنا جميعًا إلي هذا الضابط وقلوبنا تتمني لو أن الأرض اتخسفت به قبل أن يفعل فعلته الشنعاء هذه.. ومضي «السعدني» مع سجانه دون أن نسلم عليه.. ولكن أمل شقيقتي الصغرى هرولت خلفه وتشعلقت في رقبته وهي تقبله، ثم مضي في طريقه وغادرنا الحاجة أم أكرم وهالة وأمل وهبة وحنان وأنا معهن المكان والأسي يكاد يفتك بقلوبنا.. والأغرب أن الصمت نزل علينا جميعا ولم يكن أحد منا يدري أين يأخذه بصره، فقد انكسرت قلوبنا لما حدث.. وبعد أسبوعين بالتمام والكمال حان اللقاء في الغرفة الشبيهة بغرفة محطة القطار.. فإذا بنا ندخلها ونجلس إلي جانب «السعدني»، وبعد أقل من خمس دقائق يدخل علينا نفس الضابط ويسلم بحرارة علي «السعدني» ثم يقوم بالسلام علينا فردًا.. فردًا وهو في منتهي البشاشة، ويستأذن في أن نصحبه إلي غرفته.. وبالفعل انطلقنا خلفه وفتح باب المكتب وكان بالطبع أفضل حالًا، وجلسنا حول «السعدني».. وفي أدب جم طلب إلينا الاستئذان في الانصراف- علي طريقة عم «هيكل»- ولم نرد علي الرجل من شدة الدهشة التي تملكتنا.. وغادر الرجل المكتب وجلسنا وحدنا «هالة» و«أمل» و«هبة» رحمها الله و«حنان» والحاجة أم أكرم وشخصي الضعيف، وكلنا سألنا نفس السؤال «سبحان مغير الأحوال.. إيه اللى جرى له.. ده كان ناقص يطردنا أو يسجنا المرة اللى فاتت»!!.. وضحك السعدنى وهو يخلع نظارته الشمسية وقال: مش طلع قريب عبدالحليم.. ابن خالته يمكن أو ابن عمته.. وسألنا السعدنى: وعرفت إزاى؟!.. أجاب: هو كان فى زيارة عند عبدالحليم وقال له: مافيش أى خدمة أقدر أعملها لك.. وطلب منه عبدالحليم خدمة ولم يصدق الرجل فقال: اؤمر.. فرد حليم: انت عندك فى السجن واحد صاحبى يهمنى أمره.. أرجوك خد بالك منه كويس. وأرسل حليم للسعدنى مع قريبه علبة شيكولاته وخرطوشة سجاير «كنت»، وكانت خرطوشة السجاير بمثابة الكنز داخل السجن لأنها العملة المتداولة داخله فإذا كان رصيدك من السجاير محليًا وهو الكليوباترا تدفع أضعاف ما يدفعه صاحب السجاير «الكنت»، يعنى كانت زى الدولار داخل أسوار السجن.

ولم ينس السعدنى على الإطلاق جميل عبدالحليم حافظ له داخل السجن ومعه الكاتب الكبير مصطفى أمين الذى كان مسجونًا هو الآخر لكنه استطاع أن يرسل للسعدنى خطابًا ومعه علبة سجائر كنت أيضًا وعلبة حلوى، ولم يستطع السعدنى أن يرد الجميل أيامها لأن الأحوال لم تكن على ما يرام.. وفى تلك الأيام وكان لى من العمر 11 عامًا وفى ظل غياب قبضة السعدنى ورقابته الحديدية.. اتسعت أمامى مساحة الحرية، فكنا نهرب من المدرسة بعد الدرس الأول عبر سلالم عمارة مجاورة لسور المدرسة، وهذا الطريق كان الأكثر أمانًا للهرب ولكن لابد أن تدفع عنه رسومًا لأصحاب السوابق فى شارع خوفو.. فقد كان الواحد منهم مسلحًا بالأمواس والمطاوى قرن الغزال والكرباج السودانى، وكانت تعريفة المرور تحدد حسب ملابس الطلبة فإذا كان مهندما دفع ضعف ما يدفعه الطالب الغلبان، وأى بمبكة مع أصحاب السوابق ستكون عواقبها وخيمة.. ولم يكن أحد يجرؤ علي أن يسجلنا فى دفتر الحضور والانصراف لأن علاقتنا بالأستاذ كمال عبدالآخر وكيل المدرسة بلغت أشدها.. فقد كان الأستاذ كمال يمنحنا إذنا للخروج من أجل شراء سندويتشات كشرى لزوم وجبة غدائه، وكنا نستأجر دراجة خصيصًا من أجل شراء وجبة الغداء وبمجرد أن نسلمها للأستاذ كمال نعود من حيث أتينا إلي الحرية فى شوارع الجيزة.

ومنها ننطلق إلى دور السينما فى القاهرة.. وعرفت فى هذه المرحلة المبكرة شوارع العاصمة وأزقتها وحواريها وصياعها ومحلاتها، وخلال تلك الفترة شاهدت كل ما أنتجته السينما المصرية من أفلام ومعها الأفلام الأجنبية، ولم أكن أذهب إلى البيت بعد انتهاء ساعات الدراسة.. فقد كنا نلعب الكرة فى حوارى الجيزة حتى ينال منا التعب والإرهاق، فإذا عدنا فمن أجل الاستحمام والنوم.. ولم أفتح كتابًا فى تلك الأيام ولم أعرف المناهج التى يدرسونها للطلبة، صحيح أننى أحمل كتبى كل يوم ولكن ليس إلى المدرسة وإنما إلى الحياة.. وعندما حان موعد امتحانات آخر العام بدأت فى معرفة أمور الدراسة وخصصت بعض الوقت للمراجعة، ولكنه لم يكن كافيا للاجابة عن الاسئلة الغليظة التى فوجئت بها على أوراق الامتحان، ولولا الاختبارات الطيبة والمراقبون الأشد طيبة والاستعانة بصديق أو زميل لما كتب لى المرور من الصف الأول الاعدادى.. فقد ذهبنا خالد الشيمى وأنا لنستطلع أمر نجاحنا من رسوبنا، وقال لى خالد ونحن نخوض فى مجارى الجيزة ولا أقول شوارعها.. كيف يمكن لنا أن نرسب ونحن أصدقاء الأستاذ كمال.. ولما أيدت كلامه.. راح يغنى: «أستاذ كمال نحن الزغاليل».. وضحكت من أعماق قلبى على تفكير «خالد».. وعندما جلسنا أمام سور المدرسة اكتشفنا أن «خالد» رسب فى السنة الأولى الاعدادية، وأننى «عديت نضيف»، يعنى بدون ملاحق.. ساعتها لعن خالد خاش أبو المدرسة على الدراسة على الأساتذة على الأستاذ «كمال» الذى كان يغنى له منذ لحظات وبدد رسوب «خالد» فرحتى.. والحق أقول إننى لم أفرح من أساسه لأننى لا أعلم كيف نجحت على وزن أغنية «عبدالحليم» لا أعرف كيف أتيت.. فالدراسة داخل المدرسة كانت بالعافية.. مدرس الإنجليزى يستعرض عضلاته وكان اسمه عزت عبدالجواد، يتخفى خلف نظارة سميكة، وكانت جدران قلبه أكثر سماكة من زجاج نظارته، فكان يهوى بقبضة يده على كل تلميذ نسى كراسة الإنجليزى أو غفل عن عمل الواجب أو أخطأ فى نطق كلمة أو لم يعجبه شكله.. بصراحة كان هذا الرجل بيتلكك من أجل ضربك والسلام.. أما مدرس الحساب فكان لا يفقه شيئًا، وكان يعتمد فى الهندسة مثلًا على طالب شديد الذكاء حاد التفكير، وكان هذا الطالب واسمه محمد على يفك أعقد المسائل الهندسية، وكان المدرس يعتمد عليه دائما في عملية حل هذه المسائل وأحيانًا كان يصحبه الى كل فصل دراسى يدرس به وإذا تعقدت معه أى مسألة فإنه يقوم بحركة قرعة ويسأل محمد على عن الحل، و كأن المدرس يعرفه مسبقًا.. وبالطبع لم يكن كذلك.. أما مدرس العربى فكان رجلًا معقدًا من الحياة ومن فيها، فإذا وجد أحدهم ضاحكًا فإنه بالتأكيد يسخر منه الأستاذ وعليه يقع أقسى أنواع الضرب والهوان.. وكانت «الفلقة» التى اشتهرت من خلال مدرسة المشاغبين هى أعتى أدوات التعذيب فى المدرسة يتم من خلالها تقييد حركة الرجلين بعد رفعهما للأعلى ثم تنزل الشوم على أصابع وباطن القدم حتى إنك بعد ذلك لا تستطيع السير على قدميك ولكن عليك أن تزحف على بطنك كما الدودة حتى يزول الألم.. انها لم تكن عملية تربوية على الاطلاق لكنها عملية تعذيب منظمة.. لقد دخل الولد الشقى الى السجن.. وشقينا معه بالتعذيب فى مدارس الحكومة.. صحيح أنها كانت مأساة ولكن ما أمتعها من مأساة، وما أجمله ذلك الألم الذى كان هناك الى جانبه نماذج غريبة من البشر.. الأستاذ عبد الحميد الوكيل المسئول عن شئون الطلبة كان رجلًا يعشق الأذية لله فى الله، فتجده يقطر سعادة اذا ما تغيب تلميذ عن طابور الصباح فيقوم بقص بنطلونه ويحوله الى شورت ثم «يلسوع» جثته بالكرباج حتى ينزف دمًا.. وعم أحمد بتاع الشاى لم أر فى قذارة أصابعه ويديه مثيلًا، ومع ذلك كان يقدم الشاى للطلبة و يضع هذه الأصابع داخل الأكواب وهو يمسكها فيدس أصابعه ويغمسها فى الشاى وهو يمسك بيده ثلاثة أو أربعة أكواب، وكان ثمن الكوب تعريفة والسميطة قرش صاغ.. وذات يوم اعترض زميلى خالد على هذه الأوضاع المقرفة.. فإذا بعم أحمد يقول: مقرفة.. يا ابن الـ...، وصب عليه براد الشاى فانكوى وجه خالد وجسده وفر من حجرة عم أحمد وأمامه كل الطلبة والمدرسين وأنا أمام الجميع.. فقد كان عم احمد يشبه الغوريلا له رأس عريض كما الكوميدنو ورقبته أشبه برقبة الزرافة.. أما أطرافه فكانت أشبه بطواحين الهواء فإذا حطت على وجه احدهم فقد وعيه وربما أخذ كارت أحمر من الحياة ومن يومها ونحن نشرب الشاى فى صمت ولا نتبادل أى حديث أثناء تناوله حتى لا نثير غضب عم أحمد الذى كان قد تخطى الثمانين عامًا بعدة أعوام، واكتشفنا ان البلطجية الذين كانوا يفرضون الإتاوة على الطلبة الهاربين ما هم إلا ذرية عم أحمد وكنا نشيد بهذه الذرية ونتغنى بشهامتهم واخلاقهم وإلا فإن كل عيل من هذه الذرية سيترك علامة على وجهك لن تنساها أبد الدهر. صحيح ما أعظم الفارق بين أبوالهول القومية المدرسة الابتدائية الخاصة المشتركة التى تعلمنا بها، وأبوالهول الاعدادية المؤسسة التى أخرجت عشرات النبهاء ومئات من قطاع الطرق!!.