رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

بعد أن تم رفت السعدنى من الجمهورية كان عليه أن يذهب الى أستاذه فى عالم الصحافة وصديقه الذى تعلق به بشدة فى رحلة الحياة كامل الشناوى وأوصاه  كامل «بك» كما يطلق عليه الجميع.. بأن يذهب لمقابلة إحسان عبدالقدوس فى روز اليوسف، وبعد فترة من العمل إلى جانب صلاح عبدالصبور وفتحى غانم وأحمد بهاء الدين وأحمد عبدالمعطى حجازى قرر إحسان أن يكون السعدنى هو سكرتير التحرير وفى تلك الايام كانت الحرب الكلامية قد بلغت مرحلة الجنون بين الإعلام فى مصر والعراق بسبب الخلاف الذى نشب بين عبدالكريم قاسم وجمال عبدالناصر، وقام الشيوعيون فى العراق بإحراق دمى تمثل ناصر فى كل ميادين العراق.. فى تلك الفترة كانت أجهزة الأمن فى القاهرة تعد ملفات حول الشيوعيين المصريين.. وفى هذا الجو المشحون دخل على السعدنى فى مكتبه بروزاليوسف عبدالستار الطويلة ولم يكن للسعدنى سابق معرفة شخصية به، واقترب منه ومد يده ليصافحه قائلاً: عبدالستار الطويلة.. شيوعى!! وخرجت شيوعى هذه حنجورية من طراز فريد واندهش السعدنى لكون الرجل أعلن عن انه شيوعى بلا مناسبة على الاطلاق، وحبك النكتة مع السعدنى فصافح بدوره عبدالستار الطويلة بحرارة أشد وهو يقول له: محمود السعدنى.. مخابرات أمريكية!! وضحكا معاً ضحكة صافية من الأعماق، وما هى إلا بضعة أسابيع وتعرف كل منهما على الاخر فى معتقل الواحات مع  زهرة شباب مصر واعلام الصحافة والثقافة والأدب فيها، فقد تم القبض على أحمد رشدى صالح ولويس عوض ولطفي الخولى وفتحى خليل وزهدى رسام الكاريكاتير والفنان الراحل جمال كامل وأيضاً حسن فؤاد والفريد فرج والفنان الراحل على الشريف.. وقد حدث لهؤلاء المثقفين ما لم يحدث لأحد من قبل ولا من بعد، حيث كانت الاهانة هى لغة التخاطب الحيدة والتعذيب منظم والضرب على  ودنه، وكانت حكاية لويس  عوض هذا المفكر والفليسوف المصرى النبيل مع احد الحراس العواجيز ـ بالفعل حكاية لها العجب.. فقد جاء العسكرى العجوز ذات صباح واقتحم العنبر الذى يقيم به لويس عوض وألقى نظرة فاحصة على المعتقلين.. وأخذ يتفرس الوجوه وهو يقول.. أنا عاوز واحد يكون متعلم ونبيه ومتنور كده.. وقبل ان يكمل الشاويش كلامه رد لويس عوض من فوره: أنا.. أنا اللى انت بتقول عليه ده ياشاويش.. فنظر اليه الشاويش من رأسه حتى أخمص قدميه وكأنه يعاينه وتركه ومضى خطوة وهو يقول: تعالى ورايا يا جدع أنت يا متنور!! وبالفعل  مضى الشاويش العجوز ومن خلفه النبيه المتنور لويس عوض، وتوغل حتى وصلا معاً الى نهاية الحوش، وتوقف الشاويش، وانحنى على الأرض وجذب غطاء بكابورت.. وكان طافحاً عن آخره.. ثم نظر الشاويش الى الجدع النبيه المتنور لويس عوض وقال له بلهجة آمرة لا تقبل النقاش: انزل سلك البكابورت!! وهنا نظر لويس عوض الى العسكرى العجوز باحتكار وهو يقول: انت عاوزنى أنا.. انزل اسلك البتاع ده؟!

نظر اليه الشاويش هو يرفع يده التى تشبه خف الجمل وقال انت حتنزل ولا اسكعك ع قفاك.

والغريب أن لويس عوض نزل وأدى المهمة على الوجه الأكمل بينما بقية المعتقلين يختلسون النظر عبر النوافذ، لقد خطر فى ذهن لويس عوض وأنهم فى إدارة السجن ربما لجأوا الى طلب واحد  متعلم ومتنور ونبيه لكى يحل مشكلة عويصة فى الجامعة العربية.. أو لدراسة مشروع جديد فى وزارة الثقافة.. لقد اعتبر السعدنى ـ والذين معه فى معتقل الواحات ـ أن ما حدث هو إهانة لا تغتفر فى حق مثقف

مصرى عظيم فى حجم وقامة لويس عوض!!

وفى يقين السعدنى وكل من معه ترسخ ان ناصر بالتأكيد وراء كل يجرى لهم من مهازل وإهانات، ولكن ـ وهذا هو الغريب فى الأمرـ  كانوا جميعاً تقريباً يؤكدون ان ما جرى لم يفسد للود بينهم وبين ناصر أى قضية، هو أمر سيختلف تماماً فى عصر السادات وفى سجن السادات.. ولكن قبل ان نودع سجن ناصر ينبغى أن نذكر  حادثة وقعت داخل سجن الواحات عندما حل  على المكان اسماعيل باشا همت أحد ضباط الجيش الذى وجد نفسه مسئولاً ذات يوم عن المعتقين الشويعيين، هذا الرجل جمع عساكره وضباطه وأمر بفتح العنابر والزنازين زنزانة وراء زنزانة، على أن يفصل بين الواحدة والأخرى حوالى ثلاث دقائق، وكان صوته يلعلع فى أجواء السجن كأنه ينتشى فى حفلة طرب أو موسيقى هو المايسترو فيها موجهاً أوامره الى جنوده.. اضرب بكل قوتك.. بس ابعد عن البطن والرأس.. وبدات عملية الضرب الوحشي وعلت اصوات المعتقلين وصرخاتهم ويصف السعدنى هذه الأصوات  ويصنفها الى ثلاثة أنواع، صرخة مكتومة وأخرى متحشرجة وثالثة ممطوطة، ولكن الرعب الأزلى كان من نصيب هؤلاء الذين لم يقع الدور عليهم بعد.. أما الأسلحة فى أيدى كتيبة الضريبة العتاولة فكانت عبارة عن كرابيج سودانى أو فرع شجرة أو حزام  ينتهى بكتلة نحاسية صفراء أو عصا غليظة.. وفى هذه الأثناء وقبل خروج زنزانة السعدنى مر أحد المعتقلين من الإخوان المسلمين على زنزانة السعدنى والدماء تنزف من احدى يديه و قال له: «احمى جسمك بما تستطيع من ملابس».. ولم يكذب السعدنى الخبر فلبس كل ما لديه من ملابس داخلية وخارجية وفوق ذلك استعار ملابس الزملاء فى الزنزانة وسط دهشة الجميع خرج السعدنى وأخذ يمشى مثل البطة من كثرة ما ارتدى من ملابس، ولكن كله يهون فى سبيل احتمال الضرب المبرح.. وجاء الدور على زنزانة السعدنى فخرج وهو يدعو لزميله فى السجن الإخوانجى الطيب على حسن النصح، وخرج المساجين الى خارج المعتقل والسجانة من خلفهم فى الصحراء المترامية الأطراف.. ويحكى السعدنى عن هذ ه المأساة فيقول: لم أدر الى أى طريق أجرى.. ولا فى أى اتجاه.

كانت الصحراء مثل بحر بغير حدود ولا نهاية والعساكر المسلحون بالشوم دفعونى للجرى الى الأمام.. ولكن أحذية العساكر العريضة قابلتنا فى الطريق وأرغمتنى على الارتداد للخلف، ثم جرنى أحدهم من شعرى الى موضع خلف أسوار السجن، حيث كانت حفلة ولا كل الحفلات.. فهناك منصة يجلس عليها إسماعيل باشا همت مع مجموعة من الضباط بينما كان المعتقلون ـ الذين سبقونا الى هناك ـ عرايا كما ولدتهم أمهاتهم ومؤخراتهم نحو الباشا ورؤوسهم نحو الشرق!!

وتبين للسعدنى أن المأساة لم تنته بعد وإن كان أحد فصولها قد انتهى.. وقد بدأ الفصل الثانى هو مطاردة العساكر المدججين بالشوم والعصى والكرابيج لكل مسجون ينزلون فيه ضرباً وعزقاً حتى يتحرر من جميع ملابسه.. فى هذه الساعة صدر لفظ من السعدنى بحق زميله الإخوانجى الطيب فقال.. يا ابن الــ.... فإذا بالعسكري يظن أنه المقصود بالسباب، فتحولت الحكاية الي مسألة شخصية، وراح العسكري يضرب بذمة وضمير والسعدني لا يستطيع الجري من كثرة ما ارتدي من ملابس، فطالت مدة العلقة التي نالها ربما ثلاثة أضعاف ما ناله زملاؤه من ضرب لأنه استغرق وقتا طويلا في خلع الملابس حتي يتأهل لحضور الحفلة التي حضرها جميع المسجونين بلابيص حتي من أوراق التوت!! ولم تكن هذه هي النهاية.. فقد مر عليهم شاويش يحمل موسي حلاقة.. قام بحلق شعر الرأس والحواجب واللحية والشارب وبعد انتهاء الحلاقة كان الضرب علي القفا هو علامة علي أن مهمة الشاويش الحلاق قد انتهت، وبدأت مرحلة ادخال السرور في قلب الباشا همت عن طريق الضرب بوحشية ولكن هذه المرة علي الرؤوس والبطون والمؤخرات والأقدام والأذرع، ثم مرحلة الجلد بالكرباج السوداني،  وأخيراً رش جردل من المياه الباردة التي كانت تثلج صدر الباشا فتخرج الضحكات مجلجلة في فضاء الصحراء.. وبعدها يتم توزيع بدل السجن التي كانت تظهر من العورات أكثر مما تخفي بفضل ما بها من ثقوب  وفتحات تدل علي أنها قد سبق استخدامها عدة مرات من مساجين سابقين!! لقد كان هذا  هو  حال السجن مع شديد الأسف في أيام عبدالناصر، وهي الأيام التي دافع عنها السعدني بكل ما أوتي من قوة وتأثير، ولأنني لم أعاصر هذه المأساة ولكنني شاهدت بأم عيني كيف كانوا يعاملون السعدني في سجن السادات..فقد سألته بعد ذلك بسنوات طويلة وكنا نجلس أمام شاشة التليفزيون نشاهد ابنة الرئيس عبدالناصر وهي تتحدث بمناسبة ذكري رحيل ناصر وكيف كان يعاملهم كأب داخل المنزل المتواضع.. فإذا بالدموع تنهمر من عيني السعدني وكان دمعه في الحوادث غالياً.. وسألته: لقد أهانك ناصر وعذبك وسجنك دون جريمة ارتكبتها.. بل لو أنك قلت في ناصر 1/10 مما قلته في السادات لما عرف أحد لك طريقا ولا حتي الدبان الأزرق ومع ذلك أنت تكره السادات.. وتعشق ناصر..فإذا بعيني الولد الشقي تدمعان وهو ينظر إلي المطلق وكأنه يستدعي من الذاكرة الزمن الأجمل الذي تمني لو دام قليلا وهو يقول لي: يا ابني عبدالناصر أهانني وأعز مصر!! ساعتها لم أتمالك نفسي وبكيت من شدة التأثر.. فقد ورثنا جميعا عشق  جمال عبدالناصر من خلال حكايات وكتابات السعدني عنه ولكننا حتي هذه  اللحظة لم نستطع أن نتخيل كيف بلع هؤلاء النجباء النبهاء تلك الاهانة وهذه المعاملة التي لا تتفق مع الكيان البشري.. كيف أمكن لهم أن ينسوا ما جري لهم علي ايدي رجال هذا العصر، وخرجوا جميعا بعد ذلك ليؤمنوا بأهداف هذا الرجل ويمضوا خلفه في توجهه الاشتراكي لتحقيق مجتمع الكفاية والعدل، وباركوه عندما توجه نحو العالم العربي فاتحا ذراعيه بالمراحب الحارة لكل ما هو قومي عربي.. والأشد غرابة انهم بكوه عندما  رحل كما لم تبك الخنساء أخاها صخرا وشعروا جميعا أن أحلامهم ذهبت مع ناصر إلي  قبره ودفنت معه.. ومع أن هذا الرجل الذي حزنوا من أجل فراقه ضاعت سيناء وغزة والضفة والقدس والجولان في عصره.. إنها بالتأكيد اسطورة ربما يستطيع  الزمان أن يفك الغازها في حين أن الرجل الذي  جاء بعد ناصر..حارب وانتصر وحرر الأرض بعد سنوات طويلة من الاحتلال، لم ينل حظا من التقديس مثلما حدث لسلفه لقد حل بالسعدنى غم لا نهاية له عندما رحل ناصر..   صحيح أنه قابله مرة واحدة وفي الصورة ستجد الرجلين علي عكس الحقيقة.. فقد كان السعدني ساخراً.. والابتسامة لا تفارق شفتيه والنكتة لديه حاضرة جاهزة ساخنة حراقة، وكان ناصر متجهما لا يميل الي الدعابة فإذا بالصورة السعدني فيها متجهما جادا ينظر في عيني ناصر وكأنه يحاول أن يتماسك أمام  نظرات ناصر التي قال لي ذات مرة الفنان سمير غانم إنك مهما أوتيت من قوة لا تستطيع علي الاطلاق أن تنظر في عيني جمال عبدالناصر..  ولكن السعدني فيما يبدو  استجمع قواه كلها من أجل النظر في عيني ناصر الذي كان علي عكس السعدني يرسم ابتسامة فوق شفتيه تبدو البشاشة ظاهرة علي  وجهه.. والغريب ان السعدني لم يعرف لماذا قابل ناصر الا بعد سنوات طويلة، عندما ذهب الي الكويت ليقيم هناك في نفس الفترة التي شرف فيها احمد بهاء الدين الصحافة الكويتية عندما قبل الاشراف علي مجلة العربي.. في تلك الأيام قال الاستاذ بهاء للسعدني إن عبدالناصر كان يتابع مسلسلاتك الاذاعية، منها مسلسل «الجدعان» الذي انتقد فيه السعدني  المجالس المحلية والادارات المحلية والانتخابات التي كانت تزور لصالح أشخاص بأعينهم.. وبطريقة ساخرة وجذابة قدمها المرحوم محمد رضا واخرجها المرحوم محمد علوان، وأيضاً مسلسل «الشيخ لعبوط يتلعبط» الذي لعب بطولته المرحوم اسماعيل ياسين..  بالإضافة الي مقالات السعدني.. ويقول الأستاذ بهاء إن عبدالناصر أراد أن يسند للسعدني مهمة اعادة كتابة «الميثاق» لأنه شعر بعد العام 1967 بأن هناك أموراً ينبغي اعادة النظر فيها، وكان علي ثقة بأن الميثاق بالطريقة التي كتب عليها لم يصل الي الناس البسطاء الذين كان عبدالناصر يستهدفهم في فكره وتخطيطه، ولم يكن هناك أفضل من السعدني ليتولي هذه المهمة.. ويومها أبدي السعدني دهشته لهذا السر الذي باح به الأستاذ بهاء بعد سنوات طويلة!!

وربما يكون هذا الأمر أيضاً من الأشياء التي اختزنها داخله الأستاذ هيكل وأضمرها للسعدني دون أن يفصح عنها أبداً، حيث إنه من المعروف أن الأستاذ هيكل هو كاتب الميثاق والمشرف علي إعداده!!