عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

وكما قال صلاح لعم عبده المكوجى جاء السعدنى وانتشلنى من الأحلام الوردية التى عشت فيها وسط أهل الحارة وبدأنا السنة الدراسية وتوالت بعد ذلك رحلات السعدنى إلى لندن، حيث كان يصحب معه هالة للعرض على دونالد بروكس، وفى كل مرة كان السعدنى يتجه إلى عاصمة الضباب كنت أنا بدورى أتجه إلى العاصمة التى يحن لها قلبى فى حارة سمكة والبيت الذى عشقته بفضل وجود ستى أم محمود وكنت كلما غاب عنى السعدنى الكبير وضعت صورته فى جيبى لأقبلها فى اليوم أكثر من مائة مرة انتظاراً لعودته.. وعندما وصلنا هالة وأنا إلى الصف الخامس الابتدائى وكان هذا الكلام تقريباً فى العام 1969، وبالطبع لم نكن نفتح كتاباً ولا ننصت إلى مدرسين، حتى الدرس الخصوص فى البيت كنا نقضيه فى الهزار والتنكيت مع الأساتذة ولم نكن نقيم أى اعتبار للعلوم ولا للعلم، فقد حشوا رؤوسنا بكلام لا فايدة منه ولا عايدة ولكننا كنا ننجح كل عام ببركة دعاء الوالدين وبفضل المدرسة الخاصة التى كنا لا نتعلم فيها شيئاً ولكنها وكما كتب عنها السعدنى كانت مجرد جراچ تماماً مثل جراج السيارات قام السعدنى بركن أولاده فيها هالة وأكرم وأمل وهبة وحنان وعندما انتهى العام الدراسى جاء إلينا عم محمود البواب أبوشنب يشبه قرون الجاموس الوحشى وفتح شفتيه مبتسماً ليكشف عن مزبلة التاريخ، أسنان نخر فيها السوس واستوطن مكانها تاركاً كل درجات اللون الأسود والبنى وخرجت كلمة مبرووك من جوفه وكأنه ثور أسترالى يجعّر فى البرية وقد أمسك بيديه بالشهادات ومن بينها شهادتى أنا وهالة.. وتسلم الشهادات عمى صلاح وزف الخبر السعيد فى أرجاء البيت وانطلقت الزغاريد والأفراح والليالى الملاح وكان متواجداً فى نفس اللحظة الخال الجميل عبدالرحمن شوقى.. وقال لصلاح: شوف الولاد عملوا إيه.. والسعدنى الكبير يرى المشهد من بعيد أمسك العم صلاح نظارته وارتداها وكأنه طبيب سيقوم بالكشف على مريض.. ونظر فى الشهادتين وخلع النظارة ونظر إلينا نظرة فهمناها باعتبار أن اللبيب بالإشارة أو النظر يفهم.. ونظرنا لبعضنا هالة وأنا ونطقنا الشهادتين.. وارتعشنا بعد أن أطلق السعدنى الكبير صيحة.. وهو يقول الشهادة فيها إيه؟! وأصدر العم صلاح أصواتاً وأتى بأفعال وتمتم بكلمات جعلتنا نتسمر فى مكاننا.. ويقول صلاح: هاتوا الراجل اللى جاب الشهادات دى.. ويسأله الخال عبدالرحمن: ليه؟! فيقول صلاح: ده راجل نصاب وهنا يقول السعدنى الكبير: نصاب ازاى؟! ويقول العم صلاح: ده لهف منى جنيه بحاله -وكان بحساب هذه الأيام مبلغاً كبيراً- ويقول صلاح: العيال لا نجحت ولا حاجة دول ساقطين.. واقترب السعدنى الكبير من السعدنى المتوسط صلاح ليتبين صحة الشهادة.

وبعد أن ألقى نظرة عليها تحول ببصره نحونا وأخذ شهيقاً عميقاً وكأنه يملأ رئتيه بأكبر كم من الهواء الذى هو وقود الكلام لكى يقذفنا بكل قاموس «الشتومة».. وانطلقنا.. هالة وأنا نسابق الريح كما الحمام الزغاليل.. نحو غرفتنا والدهشة تكسو ملامحنا.. كيف بشرنا عم محمود بالنجاح والشهادة فيها مادتان رسوب. المهم إن أمنا ذهبت لتستطلع الأمر وأمسكت بالشهادات وجاءت حيث اختفينا هالة وأنا وسلمت كل واحد شهادته وكنا بالفعل راسبين فى مادتين ولكن فى خانة الملاحظات مكتوب.. مبروك.. ناجح وينقل إلى الصف السادس الابتدائى.. فانطلقنا مهللين متعفرتين وقمنا برمى كل هدومنا من الدولاب إلى الأرض وأمسكنا بكل الكتب الدراسية وألقينا بها من البلكونة.. إنها إذن المدرسة كما عهدناها.. نحن ندفع فلوس باعتبارها مدرسة خاصة.. وفى آخر العام نحصل على شهادة النجاح حتى لو كان هناك رسوب فى أكثر من مادة.

كنا نظن، وكل ظن إثم، أن الأمور سوف تسير على هذا المنوال على الدوام ولكن مع انتظام الدراسة فى الصف السادس الابتدائى بدا لنا أن ما فات شىء وما هو قادم شىء آخر تماماً.. فالوزارة هى التى سوف تتولى تصحيح امتحانات آخر العام والنجاح من عدمه مرهون بتحصيل التلامذة واستيعابهم للدروس والعلوم، ولكن رغم ذلك كان المدرسون فى واد.. وهالة وأنا فى واد آخر. ومرت السنة بسرعة البرق ودخلنا الامتحان وظهرت النتائج واتصل السعدنى بالمحافظة لمعرفة النتيجة واستمعنا إليه وهو يقول: إيه.. بتقول إيه الاتنين.. ده معقول وأنهى السعدنى المكالمة بأن حدفنا بسماعة التليفون.. وكنا أقسمنا له بأننا أبلينا البلاء الحسن فى الامتحان، وقد نكون على رأس الناجحين فى المحافظة ولم تستطع أمنا الغالية أن تتحمل وقع الصدمة وقال: أنا هاعتبركم فى عداد الموتى لأن السقوط فى الامتحان والموت شىء واحد عندى. قلنا ربما أخطأ المصححون أو حدث خطأ ما فى أى مرحلة من مراحل التصحيح، المهم أننا لم نتقبل السقوط وجاهدنا لكى نجد له مبرراً خارجياً.. ولم تكن المدرسة تقبل بأن ينتظم طالب راسب فى صفوفها مرة أخرى ولكن السعدنى أقسم برأسه أننا سوف نعيد العام الدراسى فى نفس المدرسة وكان له ما أراد.. ولكن إدارة المدرسة قررت أن تفصل بينى وبين هالة.. وبعد أسبوعين من الدراسة وقع حادث غريب، فقد تعرضت شركة ماتوسيان للسجائر التى تلاصق مدرستنا لحريق رهيب وانطلق جميع من فى المدرسة هارباً من الجحيم وكان أول الهاربين عم محمود أبوشنبات ومن خلفه المدرسون والمدرسات والتلاميذ فى ذيل الطابور هنا استوقفت هالة وقلت لها دى فرصة مش ح تتكرر نرمى كتب المدرسة فى الحريقة ونخلص منها ومن الدراسة.. وجدت شعاعاً خرج من عينى هالة يحمل علامات السعادة والتشفى فى هذه المؤسسة العقابية المسماة بالمدرسة والتى سلط الله عليها غضبه لما تفعله بالآمنين من أمثالنا الذين ينشدون اللهو ويستهويهم اللعب والسرحان فى دنيا الله وقبل أن ألقى بكتبى أنا وهالة لتكون وليمة لألسنة اللهب، قالت هالة وهى ترتدى ثوب الحكمة.. النار ح تمسك فى المدرسة بعد شوية وح نخلص منها لكن الكتب لو رميناها.. أبوك وأمك ح يشكوا فى الأمر وح ندخل فى «س وج»، المهم أننى عملت بنصيحة هالة.

وعدنا إلى البيت نحكى لأمنا كيف أن شركة ماتوسيان احترقت عن آخرها وأن الانفجارات عمت المكان وأن النيران كانت تجرى خلفى أنا وهالة حتى غادرنا باب المدرسة.. لطمت أمى بيديها على صدرها وصلت ركعتين حمداً وشكراً للمولى على نجاتنا وقلنا لها: إن المدرسة سوف تغلق أبوابها لفترة طويلة ولا نعلم بالتحديد متى ستعود إلى الدراسة واتسعت الفرحة داخلنا.. هالة وأنا وبالفعل لم نذهب للمدرسة أسبوعاً كاملاً ولكن.. صحيح يا فرحة ما تمت.. فقد وقع لنا حادث كان بمثابة صدمة العمر التى ضربت الأسرة بأكملها وكنا فى سن لا تتحمل مثل هكذا مأساة، ففى يوم 13 مايو من العام 1971 انقلبت أحوالنا رأساً على عقب ولم نعد ندرى ماذا يجرى حولنا وفى بيتنا.. اتصالات من وزير الداخلية السيد شعراوى جمعة تطلب السعدنى الكبير لأمر بالغ الأهمية.. والسعدنى لا أحد يعلم مكانه ومكالمات لا تنتهى من إذاعة صوت العرب والأستاذ محمد عروق وجاء الأستاذ أمين غفارى صديق السعدنى القديم شديد الحمرة وكأنه ممثل خضع ليد ماكيير فأصبح شديد الشبه بيوليوس قيصر.. وفجأة يحضر السعدنى وهو فى حالة رعب أزلى.. ومن عادة الولد الشقى إذا غضب أو أحس بأن هناك خطراً حقيقياً يحيط بأحد من أفراد الأسرة يتحول لون وجهه إلى اللون داكن السمرة وهذا ما حدث بالفعل.

سأل الولد الشقى أمى عن رقم تليفون عمتها نعيمة وكانت تسكن فى شارع خلوصى بشبرا ويتجه إلى البلكونة ومعه عم أمين وينظر فى كل مكان.. فإذا به يلحظ وجود عدد من المخبرين السريين.. ظلوا فى أماكنهم حتى حل الليل.. وأمرنا السعدنى بإظلام البيت تماماً وعدم إنارة أى غرفة حتى إن هذا الجيش الجرار من المخبرين صعدوا إلى باب الشقة وكاد الباب ينخلع من شدة الضرب وعندما تأكدوا أن أحداً لا يرد.. اختفوا تماماً.. فنزل السعدنى متأخراً واتجه إلى الجراچ ليجد عم عبده السايس العجوز يقابله على الباب ويغمز له وفهم السعدنى فيبتعد عن المكان ويلحقه عم عبده وهو يقول المخبرين كانوا فى الجراچ وفتحوا باب العربية.. وفى واحد منهم نايم جواها.. أحسن تاخد تاكسى يا أستاذ وبالفعل استوقف السعدنى تاكسى وركبه واختفى عن الأنظار لفترة طويلة من الزمن.