رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الحلقة (...)

 

لم يكن عم عبده المكوجى، الذى وقع بصرى عليه هو نفسه الذى عرفه السعدنى الكبير.. فقد كان الرجل منحنياً كأنه شجرة خابت ساقها وضل طريقه نحو الأعلى فعاد من حيث جاء. تصورت أنه يقوم بالتقاط شىء ما من الأرض، ولكن اكتشفت أن عم عبده ظهره انحنى بفعل الزمن والمهنة، فهو بدأ حياته مكوجى «رجل» وهى مهمة أصعب ألف مرة من المكوجى العادى فهو يستخدم قدمه ويده فى كى الملابس، ولكن مع الزمن اضطر إلى استخدام يده فقط، ثم حكمت عليه تصاريف الزمن أن يستخدم بصره ولسانه فقط.. قد استعان بولد من الحارة ليحل محله واكتفى عم عبده بمراقبة الولد وتوجيه النصح له أحياناً والسباب فى أغلب الأحيان وتخيلت أن عم عبده سيقوم معى بنفس الدور الذى لعبه مع السعدنى، ولكن الرجل كان مزاجه عصبياً على الدوام إذا مر بالحارة، قام بتوجيه إنذار شديد اللهجة إلى كل من يلعب الكورة بأنه فى حالة لمس الكورة للملابس التى يحملها أو التى يرتديها، فإن العواقب ستكون أزفت من أسفلت الشوارع على العيال واللى خلّفوا العيال وأحياناً كان عم عبده ينفذ وعيده لنا، فكنا أحياناً نقذفه بالكورة التى هى عبارة عن هلاهيل قماش وأحيانا نحدفه بالتراب، وهو يحمل فى يده الملابس لتسليمها لأصحابها وبين شفتيه السيجارة البلومونت، فيلقى عم عبده الملابس ولكنه لا يضحى «بالسوجارة» على الإطلاق، ثم يطلق لساقيه العنان لكى يلحق بنا ويعقب ذلك خروج قاذفات من أعماق القفص الصدرى لعم عبده وذات مرة قرر عم عبده أن يكتفى بالفرجة على البنى آدمين وأن يتعامل فقط مع الصبى الذى اختاره ليحل محله فى الدكان وتفرغ عم عبده لعمل الشاى وحتى الراديو لم يعد يهتم به إلا إذا كان عنده ضيف عزيز وذات صباح تكعبل العم صلاح «بالأسطى» عبده، كما كان صلاح يحلو له أن يناديه وفتح عبده مخزن الذكريات وجاب سيرة السعدنى الكبير بكل الخير ولكن عندما جاءت سيرتى قال عم عبده الواد ده زى ما يكون فى تار بينه وبينى مش عارف أنا عملت له إيه بيسلط عيال الحارة يبهدلونى فى الداخلة والخارجة وطمأن العم صلاح الأسطى عبده بأن السعدنى الكبير راجع من بلاد الإنجليز وح ياخذ أكرم ويخلص الحارة كلها من شره بإذن الله.. ويرفع عم عبده رأسه للأعلى وهو يقول.. يا فرج الله.

منذ هذه اللحظة كرهت عم عبده ولم أعد أشاغبه أو ألاعبه أو حتى ألقى عليه السلام.. ولكن اهتمامى انصب حول رجل آخر لم يذكره السعدنى بحرف واحد فى كتبه ولم يحك عنه مع أصحابه، ولم يأت ذكره على لسانه على الإطلاق وهو عم زكى بتاع الفول الرجل الطويل كأنه عمود كهربا صاحب العضلات المفتولة التى لم يعد الجلباب يتسع لها، فبرزت بشكل لافت للنظر والغريب أن هذا الكيان الأشبه بالمصارع كان له صوت لا يتناسب مع شكله.. وكان صوتاً محبباً للآذان ينادى على الفول المدمس وكأنه يتغزل فى جارية فى سوق النخاسة، كان عم زكى أسمر البشرة اشتعل شعره بالشيب يتخفى خلف نظارة سميكة، الخالق الناطق نظارة عم صلاح، قلت لنفسى وأنا أتأمل الرجل الذى يجر عربة الفول وكأنه حمار وحشى، ربما فقد عم زكى بصره هو الآخر بفعل مقال فقعه له السعدنى عن الفول الذى يبيعه.. لم أستطع أن أقاوم الرغبة فى اللحاق بركب عم زكى وبالفعل كنت أنتظره كل يوم لكى يملأ الطبق بالفول لقاء «تعريفة» نصف قرش، وكنت أصعد السلم كما الغزال لكى أسلم الطبق إلى ستى، ثم أعود إلى عم زكى الفوال الذى يحمل قدرتين من الفول، حيث يبدأ رحلته فى الصباح الباكر كما حكى لى من «مستوقد» للزبالة.. فى حارة رابعة وهى أعجب طريقة لتسوية الفول.. حيث يقوم أحدهم بإشعال النار فى الزبالة، فلا تخرج ألسنة اللهب ولكنها النار تظل حبيسة تحت سطح الزبالة وفوقها توضع القدرة لتسوى على النار ويقطع عم زكى الجيزة من حارة رابعة، حتى يصل إلى حارتنا وخلال تجربتى الطويلة وعشرة العمر مع الفول أقول لحضراتكم بالصراحة اللى فى زمننا كثيرة إن حبة الفول تبع عم زكى ليس لها نظير فى كل الكون، هذه الحبة من الفول أكل منها السعدنى الكبير وعمى أحمد طوغان، رسام الكاريكاتير، وعبدالمنعم عثمان، أكبر أستاذ هندسة طرق فى العالم والعم صلاح ومعه صديق رحلة الكفاح أشرف عبدالغفور جارنا فى نفس الحارة وعلى بعد خطوات ليست ببعيدة كان أيضًا عم زكى الذى سرحت خلفه طويلاً فى كل حوارى الجيزة.. يسكن عادل إمام بجوار مدرسة أبوالهول الإعدادية ولم يكن عمى زكى يعلم شيئاً عن أهل الحارة خصوصاً هؤلاء الذين أصابوا الشهرة، فقد كان يومه يبدأ فى الخامسة صباحًا وينتهى فى الثامنة مساء لم يكن لديه جهاز تليفزيون ولا يستمع إلى الراديو ولا يقرأ «الجرانين» كما يقول فهو يعيش فقط من أجل صنع حبة الفول التى تحولت إلى علامة تجارية خاصة به وحده وكان ينادى على كل بيت باسم الابن البكر فقد كان ينادى ستى «بأم محمود» وعندما بدأ هذا الرجل الضخم الجثة مفتول العضلات يفقد بصره مع مر الزمان اشترى حماراً وذهب إلى أبناء عبدالغنى فى ساقية مكى وفصل عربة ضخمة لحمل عدد أكبر من القدور وكان هناك مكان يجلس فيه وأحياناً ينام.. وظل عم زكى على هذه الحال والحمار يعلم تماماً طريقه من أول المستوقد حتى نهاية المطاف فى حارة سمكة وما جاورها. شىء واحد فقط كان يقوم به عم زكى وهو النداء على زبائنه وحب الفول لهم فى الأطباق وذات يوم انطلق الحمار بعم زكى وارتفع نهيقه بشكل أثار الجميع ولم يسمع أحد فى هذا الصباح صوت عمى زكى الذى انحبس إلى الأبد داخل هذا الكيان البشرى.. صاحب أجمل حبة فول والتى عليها تربى ضباط ومهندسون وصحفيون وفنانون وقضاة وأطباء ومدرسون وصناع وبلطجية وهم خريجو الحارة المصرية التى هى أشبه بجامعة أو كلية من كليات الحياة.

عاش عم زكى من أجل إنتاج حبة الفول التى ليس لها مثيل هذه الأيام ومات.. وقد أعلن وفاته الحمار عندما أطلق نهيقاً متقطعاً لا ينتهى وكأنه يصدر صفارة إنذار أو استغاثة إلى زبائن عم زكى.. آخر سريح لعربة الفول فى حوارى الجيزة.