عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

لم يكن العم صلاح السعدنى فى حياتنا شخصاً عادياً ولكنه صاحبنا فى كل أطوار حياتنا وهبط الى مستوانا العقلى لكى يشرح لنا أموراً مكلكعة بدت لنا، هالة وأنا من المعجزات التى لا يمكن الوصول اليها أو معرفة أسرارها.. كانت الساعة بالنسبة الينا  ونحن فى عمر الرابعة شيئاً كما اللوغاريتم.. كيف ينظر الناس اليها ويعرفون التوقيت لذلك فقد كانت الساعات والمنبهات بالنسبة إليها لعبة فقط لا غير نلعب بها  ونفكها  ونحولها الى شىء لايمكن الاستفادة منه على الاطلاق.. وذات عملية فك لمنبه حديث جاء به السعدنى من اليابان.. كان العم صلاح يجلس يشاهد الموقف.. وهو يقول الله.. إيه ده انتوا بتصلحوا المنبه.. قلنا للعم صلاح.. احنا حنلعب بيه.. وطلب منا أن يلعب معنا وبذكاء خارق أنقذ العم صلاح المنبه من أيادينا الشيطانية وقام ببساطة متناهية يحسد عليها بتحريك العقارب على الأرقام ليفك لنا طلاسم هذه الآلة العجيبة.. وكانت الساعة هى البداية من ساعتها بدأت رحلة المعرفة تتوسع بعد السعدنى الكبير دخل السعدنى المتوسط صلاح بعملية تسلل شديدة الوعى ليحول الأشياء المجعلصة تماماً الى أشياء بسيطة مهضومة فى عملية تشبه تفكيك الساعات التى كنا أساتذة كباراً فيها.

هالة.. وأنا.. فى هذه الأيام من ستينيات القرن الماضى  كان التليفزيون العربى هو سلوتنا الوحيدة ويشاركنا الأمر كل أهل مصر بالطبع، كانت هناك محطتان «5» و«7» وأحياناً محطة ثالثة هى «9» ومع هذا العدد النادر والقليل كان الكيف يحقق المتعة ويصلح المزاج ويمنح البهجة. لم يكن صلاح غائباً عن هذه الأشياء فقد شارك فى تلك المنظومة العظيمة المبدعة التى تربينا عليها جميعاً في التليفزيون العربى حيث قدم الثلاثية الرائعة للصاوي «الضحية» و«الرحيل» و«النصيب» ولعب أحد أخطر أدواره الدرامية «أبوالمكارم» دور أخرس القرية الذى يعلم كل كبيرة وصغيرة بها وقدم صلاح الدور بمعلمة وأستاذية وبلغة أهل الكار قفل على الدور بالمفتاح وكان بالنسبة لى ولهالة هو أخطر الأدوار التمثيلية وأفضلها فقد كان صلاح أقرب إنسان الى قلوبنا باعتباره الأخ والصاحب قبل العم وتعلمنا من صلاح كيفية التصوير وطرقه وأسراره ولم يكن يغضب منا أو يبدى ازعاجه منا مع أننا  كنا نهرش نافوخ بلد بأكمله ومع ذلك تحمل كل شقاوتنا ولم يلجأ الى الشخط والنطر أو الزعيق خصوصاً عندما تركبنا الجنونة بل انه كان يشاركنا الجنون والصريخ والعويل ويحيا معنا طفولة كتب لها أن تظل حبيسة المدرسة وحبيسة البيت بفضل خوف ليس له مثيل فى الكون من السعدني الكبير علينا جميعاً نحن أولاده وكنا هالة وأنا بعد أن نستفيد من علوم صلاح نقوم بمهمة تدريسها على الفور للجيل الأصغر بسنوات قليلة جداً من السعادنة إخواتى المظلومين على الدوام أمل وهبة وحنان ونمارس عليهم المريسة ونحن نعلمهم كيف تعمل الساعة أو أسرار التصوير التليفزيونى وكنا نمسك لهم بالمسطرة حتى إذا لم يستوعب أحد منهم  العلوم التى خصصنا وقتنا من اجل شرحها.. نقوم بعملية تأديب وتهذيب.. بالطبع هذا الأمر يحدث فقط فى غياب رقابة السعدنى الكبير.. ولكن كنا هالة وأنا فى دهشة من تلك النظارة الطبية السميكة التى تخفى عيون عم صلاح وتحولهما الى شىء  غير محدد المعالم وكنت أطلب منه على الدوام أن يخلعها لأنه عندما يرتديها يصبح الخالق الناطق شكل عمتى إحسان.. ويضحك عم صلاح ويقول لو قلعتها مش ح أشوف.. هنا تصورنا هالة وأنا.. ان النظارة سوف نلبسها ذات يوم فهى مرحلة أكيد يمر بها كل الناس ولم نكن نعلم ان صلاح  يعانى من ضعف فى البصر واخدت ذات مرة النظارة لكى أرى ما يراه صلاح واحسست أنني أشبه بقطة أمسكها عيل رذل من ذيلها وأخذ يلف بها فى الهواء وسقطت على الأرض.. وضحك العم صلاح وجلس الى جانبي على الأرض وقال لى ح أحكى لكم حكايتى مع النظارة بس إياك حد يقول لعم محمود على حاجة.. كان صلاح ينادى السعدنى الكبير بـعم محمود وينظر صلاح فى الفراغ  وكأنه يستدعى زمان بعيد وبيديه يطبق ذراعات نظارته ويتحسس مكاناً يضعها عليه ويقول.. فى يوم كنت فى المدرسة السعيدية وكنت حققت حلم كبير أوى أنى أدخل المدرسة اللى كل الجيزة بتتمناها وفجأة لقيت عم محمود داخل عليا الفصل وسألنى هو مدرس العربى الحصة بتاعته إمتى.. قلت الحصة الجاية دى قالي طيب.. ثم تركني وذهب ليجلس فى الصفوف الخلفية.. أبوكم إيامها اللى يشوفه يقول عنده بالكتير 18 سنة 19 سنة يعنى ممكن يعدى.. المدرس دخل الفصل.. وكل شىء مشى بدون أى ملحوظة واتكلم الراجل عن أفكار خاصة بمجموعات متطرفة فكرياً وحكى لنا حكايات عجيبة الهدف منها انه يلاقى أرضية خصبة من الأولاد ينضموا للناس بتوعه.

السعدنى الكبير.. كان عنده ذاكرة زى بتاعة الكاميرا كده.. تحفظ كل حاجة.. خرج من الحصة وما أعرفش راح فين. المهم ان كل كلمة الراجل قالها.. مع تعليقات السعدنى الساخرة.. انكتبت وانتشرت على صفحة كاملة فى  جريدة الجمهورية.. وحصل رد فعل  رهيب من الجماعات إياها وعنفوا المدرس بشكل واضح جداً انه أتأذى فعلاً بالاضافة الى أن إدارة المدرسة استدعته واصبح محالاً لتحقيق فى الوزارة والمديرية وجهات أخرى.. وكان سهل جداً أن المدرس يعرف مين اللى قال للسعدنى على حكاوى المدرس وأفكاره.. جاء الرجل الى الفصل وعلى وجهه كل غضب الدنيا وواضح أن كم الغضب لم تعد  عملية كتمه ممكنة وكان بنيان الرجل يشبه عساكر الدورية هذه الأيام وله كف إيد أشبه بالمطرحة.، وجدت الرجل وكل ملامح وجهه تلعب من الغيظ يرفع يده للسماء ساعتها تشاهدت وقلت دى النهاية.. وقام بضربى على مؤخرة رأسى.. وكان لهذه الضربة آثار سيئة جداً على النظر اكتشفت انه أصاب الشبكية وفقد على أثرها صلاح جزءا ليس بقليل من البصر اضطر معه الى ارتداء النظارة التى اشتهرت فى تلك الأيام بكعب الكوباية.. من هذه اللحظة تمنيت أن تقع عيناى على هذا الوحش الكاسر مدرس اللغة العربية الذى أطفأ بعضاً من نور العم صلاح الذى تحول فى حياتنا الى مصباح أضاء لنا معالم على الطريق ونحن فى طفولتنا المبكرة بل وظل على الدوام وطوال رحلة الحياة التى أمتعنا فيها السعدنى الكبير محمود والمتوسط صلاح كانا معاً أهم إطلالة على دنيا المعرفة والثقافة والفكاهة والسخرية والفنون والابداع.. ولكن الشىء العجيب أن السعدنى الكبير لم يعلم بهذه الواقعة على الاطلاق لا من صلاح ولا من أى مخلوق آخر وبالطبع بقينا على العهد مقيمين.. هالة.. وأنا ولم نبح بهذا الأمر لمخلوق على الاطلاق.