رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

مذكرات.. ابن الولد الشقي الحلقة (2)

 

 

 

 

أول خطوة خطوتها خارج بيتنا دون أن يصطحبنى أحد كانت نحو تلك الحارة التى تركت فى نفسى بصمة لا يمكن أن يمحوها الزمن.. فقد كانت البيوت على جانبى الطريق ترتفع لدور واحد أو دورين على الأكثر، وكان ضريح «الشيخ رويس» يقع على ناصية الحارة أول ما تقع عليه عيناك هو صندوق النذور يبدو واضحاً من خلال شباك حديدى كانت الأيادى تمتد بعملات معدنية من فئة القرش والتعريفة ثم يتجه أصحابها بالدعاء رافعين أيديهم إلى السماء وتنتهى الرحلة بقراءة الفاتحة، وكنت أظن أن الضريح يضم فقط رفات «الشيخ رويس» الذى يجله أهل الحارة ويقدرونه.. ولكننى اكتشفت أن هناك خادماً للضريح هو «عم أمين» يسكن فيه مع زوجته وأولاده وأنهم جميعاً يقومون بتنظيف المكان ورشه بالمياه، وفى الداخل كانت «أم أمل» زوجة «عم أمين» تربى الطيور من فراخ وبط وأوز، وبعد ذلك تطور الأمر فإذا بهم يتجهون نحو تربية الغنم، وكان أول دكان تقع عليه عيناى هو دكان «عم على المكوجى»، وهو رجل أسمر البشرة يضع راديو ضخماً على رف أعلى السقف لا يدير المؤشر عن إذاعة القرآن الكريم وإذا أذن المؤذن ترك الشغل وفرش السجادة وأدى الصلاة، وسبحان الله كان «عم على» رجلاً فاضلاً يسير على الطريق المستقيم من البيت إلى الدكان وبالعكس ولكنه أنجب عدداً من الأبناء منهم «مصطفى» و«حسنى» و«أحمد»، استطاع البعض منهم أن يتسرب من التعليم الحكومى بعد أن فشلوا عن جدارة فى اجتياز الصف الرابع الابتدائى، ولذلك لجأ «حسنى» إلى التسكع فى الحارة يلعب بالكرة الشراب، أما «مصطفى» فقد حكم عليه الوالد أن يشرب الصنعة ويتعلم كى الملابس، ولذلك كان «مصطفى» يحمل دائماً الخشبة إياها التى اشتهر بها المكوجية أيام زمان يحملون فوقها الملابس المكوية، وكان «مصطفى» يهوى كرة القدم ويعشقها ولكن الشغل حرمه منها.. فقد كان يقطع الطريق ذهاباً وعودة محملاً على الدوام بالملابس، وتمنيت لو أنني رافقت مصطفى فى حله وترحاله، فهو حر طليق يمضى الليل والنهار فى الشوارع وليس لأحد عليه سلطان، وكان يوم الجمعة هو اليوم الذى يجتمع فيه عيال الحارة بأكملها يلعبون الكرة على شكل دورى، وشاءت الصدف أن أنتظم فى فريق ضم «فكرى طربوش» و«حسنى على» و«حمادة العربى» وولداً اسمه «سمكة» وكان هناك فريق آخر يضم أولاد الجيوشى، وهم أبناء عائلة تسكن عدة بيوت متقاربة وكانوا جميعاً وبلا استثناء حريفة يلعبون الكرة كما الحاوى ويأتون بحركات لم أشاهد مثلها فى حياتى، وأحيانا كان العثور على الكرة أمراً أشبه بالمستحيل، ولذلك كان هؤلاء الأولاد يلعبون بالزلط والحجارة والصفيح، وكان فريقنا يسمى نفسه «فريق البحر الأعظم» ودائما ما كنا نصعد إلى نهائى أى لعبة فى الكرة ولكن حظنا الأغبر أننا كنا على الدوام نصطدم بفريق «حسنى البحراوى» وهو يسكن فى العمارة التى تسبقنا بجانب قسم الجيزة فى نفس عمرى، ولكن بنيان «حسنى» كان عجيباً فنظن أن الفارق بيننا تماما مثل الطفل وأبيه، وكان «حسنى البحراوى» إذا شارك فى أى مباراة كان عدد ضحاياه أكثر من عدد الأهداف التى يحرزها الفريقان معاً، وكنا جميعا نخشى حسني البحراوى، ونقدره ونحترمه، فهو شديد القوة ولكنه لا يستخدمها ضد الأصدقاء ولكنه فى اللعب يضطر إلى استخدام هذه القوة فى الترقيص فإذا واجه مقاومة استخدم يديه وأحيانا رأسه وإذا كُتب لأحد الخصوم أن يتلقى «روسية» من «البحراوى»، فإنه سينام فى بيته ثلاثة أيام على الأقل ليبرأ من هذا الحاث الأليم، ولذلك فقد كان علينا أن نتفق «اتفاق جنتل مان» بأن يتحول «حسنى البحراوى» من لاعب إلى حكم ولكن «حسنى» لم يقبل الأمر بسهولة إلا بعد أن تعرض أحد الأصدقاء لكسر مضاعف فى الساق وهو «أشرف عبدالقوى» وبعد أن فك «أشرف» الجبس اكتشف أن قدمه لم تعد تطاوعه كما فى سابق الأيام وأقسمت السيدة والدته بأنه لن يرى الشارع بعد ذلك لو عاد للعب أمام «حسنى البحراوى» مرة أخرى، وكانت النتيجة أن «أشرف» كره لعبة كرة القدم فلم يعد يقبل على لعبها أو حتى مشاهدتها ولم يكن حتى يشجع منتخب مصر، ومع ذلك ظل «أشرف» على علاقة الود والمحبة مع «حسني البحراوى» وهو يحفظ له هذا الجميل، خصوصاً أن باقى أفراد الشلة بعد ذلك بسنوات طويلة أصابتهم أمراض الضغط والسكر والقلب بسبب هذه الملعونة الساحرة المستديرة.. وهكذا وفي حارة «الشيخ رويس» وجدت مجتمعا مخمليا، فهذا هو النادى والملجأ والملاذ الذى أتجه إليه فأنسى كل ما فى الدنيا.. ولكن الولد الشقى ضبطنى ذات يوم وأنا ألعب الكرة في الحارة، وعندما تلاقت نظراتنا تركت المباراة رغم أهميتها وانطلقت أسابق الريح إلى البيت.. وهناك ظل يعاتبنى على الذهاب إلى الحارة واللعب مع هؤلاء «الصيع».. وكان عم محمد رضا فنان الشعب الجميل - رحمه الله - يصحب السعدنى فى هذا اليوم وضحك ضحكته الصافية وهو يقول.. يا أخى يعنى الواد جابه من عنده.. ما هى الحارة هى التى عملت السعدنى.. وبالطبع لم يكن السعدنى معترضاً على الحارة ولكنه كان يخشى علىَّ من الأذى، فهو يعلم جيداً أننى مشاغب من طراز فريد، ويظن أننى طالما بقيت فى المنزل ابتعدت عن الخطر.. وأنهى السعدنى الكبير الخلاف الفقهى بينه وبين المعلم رضا حول اللعب فى الحارة قائلا لى: حسك عينك أشوفك بتلعب كورة فى الشارع تاني!! وللحق أقول إننا جميعا كنا نخشى السعدنى ونخافه ولكن فى تلك الأوقات التى كان يغادر فيها المنزل وتختفى بالتالى قبضته الحديدية عن كل من فى البيت كنت أتجه إلى الحارة كالسهم وبعد أشهر قليلة من المجيء إلى شارع البحر الأعظم وجدت السعدنى الكبير يطلب من الست والدتنا شهادات ميلادى أنا وشقيقتى هالة.. ولم نفهم السر من وراء ذلك الطلب، لكنه فى الصباح الباكر أيقظنا على غير العادة وسألنا أمنا: إحنا حنعمل إيه ع الصبح؟.. فقالت: بابا حيفسحكم شوية.. ولبسنا زيا عجيبا واتجهنا إلى السعدنى الذى كان يحلق ذقنه وهو يقرأ آيات من القرآن الكريم. سألته فى البداية احنا رايحين على فين يا بابا؟.. فأجابنى بـ«هش» امشى دلوقتى.. فاختفيت من أمامه وبعد قليل ارتدى بدلة أنيقة ورش وجهه بالكولونيا الأولد سبايس ونادى علينا لنخرج معه.. انتوا مش عاوزين تروحوا جنينة الحيوانات.. قلنا آه.. رد قائلا.. طيب ياللا ع الجنينة.. فهمست هالة فى أذنى.. طيب وبقية العيال مش ييجوا معانا.. المهم أننا ركبنا سيارتنا الفولكس فاجن الزرقاء، وسألت أبويا واحنا لابسين كده ليه!! فأجاب.. ده لبس الجنينة.. فنظرت إلى هالة فوجدتها مثلى تماما على حالة من الانشكاح والفرح لا مثيل لها، ثم ذهبنا إلى مكان مسور بأسوار عالية وكأنه السجن، وقف أمام بوابته الحديدية رجل ضخم الجثة يرتدى جلبابا وله شنب تمام الشبه بقرون الجاموس اسمه عم محمود.. أمره السعدنى بأن يفتح الباب ليمر بالسيارة ولكن الرجل رفض وقال: بس ده ممنوع يا بيه!!

ولكن شخطة عنترية من السعدنى جعلت الممنوع مسموحاً، ودخلنا بالسيارة وتوقفنا أمام مجموعة من الأولاد يلبسون نفس الملابس بتاعة الجنينة وتركنا السعدنى وهو يقول على طريقة قائد جيش.. ما حدش يتحرك من مكانه.. ثم ذهب إلى سيدة لها بشرة سمراء وعادا معاً وأمرنا بالنزول.. وقال لها.. يا ست فاطمة خللى بالك الواد ده فى منتهى الخطورة.. فقالت: اطمن يا أستاذ محمود.. اتفضل انت.. واتجه السعدنى نحو سيارته ونحن وراءه ولكن الست فاطمة سبقتنا وأمسكت بهالة ثم بى وانطلق السعدنى بسيارته بسرعة الصاروخ، واكتشفنا الخديعة العظمى والطامة الكبرى، فقد دخلنا المدرسة، وبالطبع قمنا بسب الأخضرين لأبلة فاطمة وللولد الشقى ولليوم الأغبر الذى دخلنا فيه هذا السجن، ومن شدة الغيظ لم يكن أمامنا سوى البكاء، فالأسوار عالية والأبواب محروسة برجال مثل العمالقة، وها هو طابور الصباح.. أناشيد ومارشات عسكرية والأولاد يتكلمون في الميكروفون وآخرون يعزفون ثم بدأ الركب يتحرك وقالوا اننا سوف نتجه إلى الفصول والتى كانت أشبه بالزنازين.. صحيح أننا كنا فى مدرسة خاصة ولكنها فى نهاية المطاف كانت سجنا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، تعودنا أن نصحو كما يحلو لنا وأن نسهر الليل بطوله فى انتظار قدوم السعدنى وفى الصباح لا يستطيع مخلوق مهما أوتى من فصاحة ونصاحة أن يجبرنا على الصحيان، ثم إذا كان رب البيت للظهر نائما فما بالك ببقية أهل البيت، صحيح أن الحاجة أم أكرم كانت هى الدليل على وجود انضباط داخل البيت، فهى شعلة نشاط دائمة الحركة بينها وبين الإهمال معارك حامية الوطيس والمكان الذى تتواجد به يتحول إلى متحف كل شىء مرتب وكل حاجة مهندمة والنظافة على أشدها ويا سبحان الله السعدنى هو الملك المتوج على عرش الكيف والمزاج.. يعنى النوم حسب التساهيل والصحيان عندما تشبع من النوم.. والمواعيد، الدنيا مش ح تطير، وكان الالتزام الوحيد الذى شعرنا أن السعدنى لا يحيد عنه هو مجال عمله الصحفى فى مجلة «صباح الخير» ولذلك فقد أخذنا عنه كل صفاته وسلوكه فى الحياة وتمنينا لو أن المدارس تكفى نفسها شر العمل فى السابعة صباحاً وتفتح أبوابها فى السابعة مساء، خصوصا أن التلاميذ فى الصباح يبدو على وجوههم الجوع إلى النوم وما يتبعه ذلك من بلادة فى الأداء الدراسى، ناهيك عن بلادة البعض وغباء البعض، ولكن فى المساء تكون الحيوية قد دبت فى النفوس ويستطيع التلميذ أن يكون أكثر استعداداً لاستيعاب ما هو معصوم عن الفهم فى بواكير الصباح.. ولكن لماذا خدعنا السعدنى وقال إننا متجهون فى ذلك الصباح إلى حديقة الحيوانات، ولماذا انتابنا شعور من البهجة عندما علمنا بأننا فى الطريق إلى جنينة الحيوانات ثم تحول الشعور إلى خوف وأسى واكتئاب بمجرد أن علمنا بأننا فى طريقنا إلى تلقى الدروس والانتظام فى مدرسة والجلوس مع طلبة أو تلاميذ أغراب وتلقى أوامر من مدرسات ومدرسين ونحن الذين لم نتعود على تلبية أى أوامر من أى مخلوق باستثناء السعدنى الذى كنا نكن له حباً بغير حدود، وفى نفس الوقت نخشى غضبه وثورته وانقلاب مزاجه.. لقد استقبلتنا أبلة فاطمة عبدالحميد بترحاب وود شديدين وأظهرت قدراً عظيماً من السماحة والطيبة لدرجة أننا بادلناها مشاعر الحب وارتبطنا بها بالفعل.. فقد كانت تدرس لنا العربى والدين معاً، ولعل سبب اقترابنا من هذه السيدة الفاضلة هو ملامحها الودودة، وكنت أنا شخصياً أجد فى عينيها بريقاً يشبه ذلك الشعاع الذى يخرج من عينى عبدالحليم حافظ، وكان صوتها هادئا ناعما، تتكلم وكأنها تغنى فتخرج الكلمات وهى تتراقص على لسانها، ولم يكن الجميع على شاكلة أبلة فاطمة.. فقد جاءت ذات يوم سيدة بدينة ذات بشرة سمراء تقف خلف نظارة شمسية وطبية معاً وعندما دخلت علينا الفصل نظرت إلى الجميع وكنا قرابة العشرين تلميذاً وتلميذة وران صمت عظيم بين التلاميذ الصغار، ووجدت زميلى فى الدكة المجاورة حسنى قورة يهمس فى أذنى.. دى باين عليها ح تاكلنا.. دى شكل أمنا الغولة.. وأشارت المدرسة إياها إلى شخصى الصغير وبلهجة قائد عسكرى يتحدث إلى جندى غلبان قالت: الولد ده كان بيقولك إيه؟.. ولم أرد عليها.. ليس ترفعاً لا سمح الله ولا تمرداً ولكن دقات قلبى بدأت في الارتفاع حتى شعرت بأننى أنتفض من فوق الأرض، واحمر وجهى وارتفع ضغط دمى بالتأكيد وهرب الهواء من داخل القفص الصدرى، وكدت ألقى حتفى رعبا من مدرسة الإنجليزى التى أخرجت من وراء الباب خيزرانة وأمسكت بالطباشير واتجهت نحو السبورة وهى تقول: النهارده ح نتعلم 3 حروف من اللغة الإنجليزية مع 3 كلمات هنستخدم فيها الحروف الثلاثة.. وبالطبع كان وجود الولد حسنى قورة إلى جانبى كفيلاً بأن نتبادل خبراتنا فى عالم العفرتة والشقاوة بديلاً عن هذه الطلاسم التى جاءت بها مدرسة الإنجليزى، ولم نحاول يوماً ما أن نفك ألغازها أو نتعرف على أسرارها وانشغلنا بما هو متاح لنا من أدوات للتسلية فى ذلك المكان فلم يكن هناك بلاى ستيشن ولا نينتندو ولا بى إس بى ولكن السيجة والـ«X» و«O» وملك وكتابة أصبحت هى سلوتنا، خصوصاً فى تلك الدروس التى لم تخلق لنا ولم نخلق لها وعلى رأسها حصة الحساب.. ويشاء الله السميع العليم أن تكون مدرسة الحساب واسمها ميس «نوال» أطول خلق الله وإنساناً فكنا ننظر إليها كما لو كنا نقتفى أثر نجم فى السماء، وكانت حادة الملامح، وصوتها كما السكين المسنون تشعر بأنه يذبح أذنيك ولأنها على هذه الشاكلة فقد جلبت معها أدوات تشبهها منقلة على شكل خيمة وبرجل أشبه ببرج القاهرة، والحق أقول إن عملية الحساب كانت بيننا وبينها مشاكل وأزمات تفاقمت ليس بسبب صعوبة المسائل ولكن بفضل شخصية أبلة أو ميس «نوال».. فقد كانت عنيدة إلى أقصى مدى، يظهر عليها الغيظ بمجرد أن تنظر إلى هيئتى وكأن هناك «ثأر بايت بيننا».. قلت فى نفسى يمكن شكلى بيفكرها بإنسان مش ولابد أو بظروف مش طبيعية فى حياتها، ولذلك عندما تشرح درساً ما تحرص على أن تتابعنى بعينيها.. ويا سبحان الله مدرسو الحساب بالذات لديهم فراسة وعندهم لماحية فهم فى بعض الأحيان يرون كل شىء سواء كان هذا الشىء أمامهم أو خلفهم.. إزاى ما تعرفش.. وحكمة الله أن الست نوال كانت تشرح الدروس وتبذل جهداً غير طبيعى فى عملية الشرح وبعد ذلك تتفرس من الوجوه وتمضى بنظرها تستعرض الفصل كله، ومن دون خلق الله جميعا تختارنى، لكى أعيد على مسامعها الشرح، وكنت أقف ألبى النداء ولكننى أبدا لم أجد الإجابة التى تشفع لى عند ميس نوال، ولذلك كان الغيظ يكاد يفتك بها وتتلون عيناها إلى الحمرة وأحيانا أشعر بأن شعر رأسها سيقف من شدة الغيظ، وكانت الأمور تنتهى دائما بأن أمد إليها يدى الصغيرة بالمشقلب وتقوم هى برفع برج القاهرة الذى على شاكلته البرجل وتهوى به على ظهر كفى، ولم يكن بنيانى يحتمل مثل هذا العذاب.. لقد اكتمل السجن إذن بعملية الضرب هذه ولم يعد هناك فارق بين المدرسة وأهدافها والسجن وأغراضه.. إنه ضرب وتعذيب ووجع دماغ ودروس ليس لها أهمية من أى نوع.. لماذا لا يحكون لنا قصصا أو يعلموننا مزيكا فقط أو يتركوننا فى المرسم نفعل ما نشاء أو حتى يدربوننا على أصول الكرة والطائرة والريشة والهاندبول، لقد كانت أجمل لحظات الدراسة هى تلك التى قضيناها فى هذه الأماكن ومعها حصة الزراعة التى كان مدرسها يجيد رواية النكتة ويقضيها فى الفوازير وحلولها، ولكن الشىء العجيب أن هناك عيال زى اللهلوبة حفظوا كل شىء ولكن من دون فهم، ولم أعرف من أين جاء هؤلاء بالوقت والجهد لكى يبلغوا هذه المكانة، وكان منهم زميلى الذى لا أعرف له مكاناً الآن محمد كيرة وعمر وسيد المغربى وعلاء وأحمد الريفى ووليد وشقيقته بشرى وجمال وأخته جيهان.. ولأن الطيور على أشكالها تقع فقد اكتفيت بصداقة حسنى قورة الحميمة خصوصاً أنه مثلى جاء للدراسة بناء على رغبة الأهل.. وبالصراحة اللى فى زماننا قليلة أقول لحضراتكم إننى فى هذا التوقيت تمنيت من أعماق القلب لو أننى سرحت بعسلية أو بورقة البخت واليانصيب، ولا أخفى حسدى الذى طال هؤلاء الأولاد الذين كانوا يتسكعون فى الشوارع والحوارى والأزقة أو هؤلاء الذين كانوا يعملون أحيانا لدى أصحاب الحرف، صحيح أن الواحد فيهم كان يطلقون عليه اسم بلية وهذا أهون ألف مرة من السقوط فى براثن ميس نوال ومدرسة الإنجليزى، وبسبب هاتين المدرستين كرهت الدراسة والمدرسة.. صحيح أنها كانت مدرسة خاصة ومصروفاتها بالشىء الفلانى ولكننى لعنت المدرسة.. والأيام السوداء والحظ المهبب الذى أوقعنى فى طريقها، وكلما كانت تمر أمامى سيارة الموتى السوداء أهتف من أعماق القلب بأن يكون من زبائنها عن قريب يا مجيب الدعاء مدرسة الحساب ومعها مدرسة الإنجليزى!!

وبالطبع حرمتنى المدرسة من المتعة الوحيدة التى اكتشفتها وهى حارة الشيخ رويس ولهذا ولماذا أيضاً فقد كنت أخترع أى سبب لكى أنزل إلى الشارع وأتجه إلى الأصدقاء الذين اخترتهم فى رحلة الحياة ويتحول الوقت إلى جانبهم بشىء يشبه لمح البصر أما تلك الساعات التى كنا نقضيها فى المدرسة فقد كانت كفيلة بأن تنتج أفلاما مرعبة فى أحلامنا وفى يقظتنا معاً!