عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

إنه الشاعر العربى الثائر نزار قبانى.. تعالوا قليلاً قليلاً بعيداً عن حديث السياسة الغامض كالليل البهيم والذى تجمد الحديث فيه عن موضوعات معادة ومكررة ولا أمل فى حل أو شفاء لمريض استعصى عليه الدواء.

تعالوا نذهب إلى دمشق الفيحاء ولنيمم وجهنا شطر المسجد الأموى الكبير وندعو الله مخلصين أن «تستيقظ الأمة العربية من سبات نومها العميق» أو «يحيى الله ويبعث من فى القبور» وهى عبارة قالها المقصود بهذا الحديث والذين أطلقوا عليه «رئيس جمهورية الشعراء» وكأى جمهورية فى الفن أو فى الشعر أو فى الأدب أو فى السياسة فيما بعد «لا إرث ولا توريث»، إنها مدة واحدة ليتمتع الجالس على عرش الجمهورية، يفنى من أجل بقاء شعبه أو محبيه أو الداعين له صباح مساء بأن يعطى ويأخذ، يعطى الحب ويأخذ مقابله العطاء والعمل والإنتاج فى أى ميدان كان.

<>

مقدمة كانت لازمة، لأصف رحلتى الثانية إلى قبر الحبيب إلى قلوبنا وعقولنا وكل ذرة من عواطفنا لنطفئ عند قبره لواعج الشوق، أليس هو القائل «اشتقت إليك فعلمنى ألا أشتاق.. علمنى كيف تموت الدمعة فى الأحداق»، وعدت إلى قبره كما المرة الأولى عند ربوة عالية تطل على معالم المدينة محوطة بالأشجار الجميلة والخمائل الزاهية، فيها الورد والفل والياسمين من كل جانب وقبر الحبيب محوط بهذه المملكة ذات العطور، وكأنها صنعت من أجله يناجيها وتناجيه، وتبث فى قبره وبين ترابه عطراً أبدياً خالداً.. «يحيى عظامه فى ترابه الميمون» وكما قال شكسبير فى «ليلته الثانية عشرة»: «حيث تأتى إليه طيور الليل السيارة تسامره وتحاكيه فى قبره».

<>

وكان «حديث الروح إلى الروح» ما بين الأحياء والأموات «وإن كان نزار الشاعر ليس ولن يكون من الأموات، لأنه باق ما بقيت الطيور والزهر والليل والقمر» وهو القائل: هذه العصافير أصحابنا

ونحن الذين حرام أن يموت أمثالنا

صدقت يا شاعر الحب والجمال والخلود...

<>

وكان حديثى معه أن أحوالنا العربية، عن الضفة وغزة والقدس الشريف.. إلخ، ورأيت ترابه يهمس بأقوال وأشعار جاد بها حين كان «بيننا حياً»..

نزار الذى:

لم يترك بيتاً لم يدخله.

ولم يترك طفلاً لم يلعب معه.

ولم يترك حديقة لم يجلس تحت أشجارها.

ولم يترك عاشقاً إلا احتضنه.

وفجأة رأيت «صوت القبر» يعلو ويرتل فى ليالينا، ما سبق أن قاله عن «العرب وأحوال العرب وغروب وجه القمر فى بلادنا»:

أنا يا صديقتى متعب لعروبتى

فهل العروبة لعنة وعقاب

أحاول منذ الطفولة رسم بلاد

تسمى مجازاً بلاد العرب

تسامحنى إن كسرت زجاج القمر

وهو القائل فى ثورة غضبه صورة شعرية نادرة، وهو القائل عن نفسه:

أنا الدمشقى لو شرحتم جسدى

يسال منه عناقيد وتفاح

ولو فتحتم شرايينى بمديتكم

سمعتم فى دمى أصوات من راحوا

<>

تعالوا معى إذن نستمع فى خشوع وتراب القبر بيننا، عن «من علم نزار أن يحيا وأن يقول شعراً جميلاً لا مثيل له»:

من علمنى.. أول درس فى أحوال الوجد

من علمنى.. كيف أواصل عشقى.. منذ المهد.. وحتى اللحد

من علمنى أن حبيبى.. نوع من أعشاب البحر.. وفرع من عائلة الورد.. من سمانى ملكاً فى تاريخ العشق.. فقد أعطانى كل المجد..

من علمنى.. كيف أسافر ضد الموج.. وضد الريح..

من علمنى.. كيف تكون الكملة سيفاً.. فى وجه السلطان

ومن علمنى.. كيف «أموت على أوراقى».. حتى ينتصر الإنسان

<>

حقاً كان شاعراً - ولا يزال صداه مهما كان القرب أو البعد - فهو كما قال شاعر آخر «قريب على بعد، بعيد على قرب».. هو شاعر.. البرق منزله.. والبحر سيرته الذاتية.. هو شاعر.. كلما خرج من فندق كلماته.. وجد سيارة البوليس بانتظاره.. هو شاعر.. ينزل من بطن أمه.. وفى يده.. عريضة احتجاج.. وعلبة كبريت..

وأخيراً: هو شاعر، يعلم أشجار الغابة.. أن تسير فى مظاهرة.. من أجل الحرية.. هو شاعر.. كلما ظهر فى أمسية شعرية.. أطلقوا عليه القنابل.. المسيلة للأحزان..

هو شاعر تزوج الحرية زواجاً مدنياً.. وأنجب أولاداً.. شعرهم بلون السنابل.. وعيونهم بلون البحر.

<>

هذه هى الطبيعة فى عرسها الأبدى

الشمس والليل والقمر.. ورائحة الزهر والياسمين والبنفسج.. تعطر قبر الحبيب الشاعر الجميل جداً.. وكان لزيارتى أن تهمس بينى - أنا - وبين نفسى.. وقد رأيت قمر السماء يستأذن هو - الآخر - بالرحيل.. وهمست فى أذن عصافير المكان.. حراس قبره.. أن «إلى اللقاء».