رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عسل اسود

تربيت منذ صغري علي ان أصف اشقاء والدي السبعة بـ "ابويا فلان" ولا أقل لهم مثل اغلب سكان بلدتي بصعيد مصر "عمي فلان" وكذا يفعل كل ابناء اعمامي بلا استثناء، أمر لم اكن ادرك قيمته كثيرا الا عندما ذهبت الي المرحلة الاعدادية وسألني استاذي وجميع زملائي كيف ننادي علي اعمامنا، واثني علي اني اقول "ابويا فلان" وقتها شغل الامر تفكيري فادركت ان لفظ ابويا يدل علي القرب والمحبة، يدل علي الاحترام والتقدير، يدل علي الاتحاد والألفة، يدل علي المكانة والحظوة فالجميع لهم اب واحد وانا لي والدي الذي جئت من صلبه واحمل اسمه، و"آبائي" اعمامي الذين لا يفرقون
 بيني انا واخوتي وبين اولادهم، فنشأنا جميعا ابناء رجل واحد حتي لو حمل كل منا اسما من  8 اسماء مختلفة.
الحقيقة انني نشأت في عائلة مختلفة، قد يوجد مثلها في مصر، لكن لم اعرف مثلها في عالمي الذي عشته، 8 اشقاء يتعاملون علي انهم رجل واحد، صوت واحد، مستقبل واحد، حتي عندما رحل احدهم شهيدا في حرب الاستنزاف ضد العدو الصهيوني، أبوا ان يصبحوا سبعة وباتوا يعاملون ابن شقيقهم الراحل "وهو وحيد" علي انه واحدا منهم، لدرجة اننا الابناء كنا ومازلنا نعتبره المتمم لاعمامي الثمانية، ونمنحه مكانة العم باختلاف ابناء اعمامي الاخرين الذين نعتبرهم اخوتنا، اعمامي حفروا لهم ولعائلتي ولبلدي ولنا تاريخ لن ينسي، وضربوا مثلا في التلاحم والشهامة والاقدام،
 تاريخ مازال يردده ابناء "مركزنا والمراكز المحيطة" بسوهاج، تاريخ اضاف لتاريخ اجدادي، وحتي عندما تنشأ خلافات تقليدية بينهم  كحال كل الاشقاء، لا اذكر يوما اني خاصمت احدهم علي خصام والدي، ومن غير المسموح لي علي الاطلاق وفقا لتقاليدنا وتربيتنا انا وجميع الابناء ان نتدخل في هذه الخلافات، فالاثنين " والدي وعمي" واحد، واحيانا كنت اذهب الي بلدتي في اجازة فأجد والدي علي خلاف مع احد اخوته، الا انه يبادر من نفسه، ويسألني "سلمت علي أبوك فلان" .. فرد مبتسما "نعم زرته .. احنا ملناش علاقة بـ "خلافاتكم"، فيأخذني والدي في حضنه سعيدا دليلا علي الرضا،
 وبات من المعروف عن عائلتي انه مهما كانت بين افرادها من خلافات، ينسون كل ذلك فورا عندما يتعرض احدهم لخلاف مع احد خارجها، ويتحولون من جديد الي رجل واحد، وبنيان مرصوص، ويتكرر ذلك في المناسبات السعيدة ايضا، وربما هذا اكسبهم واكسبنا هيبة واحترام من الجميع الذين يرددون دائما " بيت عمران رجل واحد"، وجعلني اشعر بفخر وثراء قد لا يتمتع به احد غيري، ثراء ليس منبعه اموال عائلتي، او جذورها، او حتي وضعها الاجتماعي، ثراء اساسه الحب الذي نعيشه، الوحدة التي تعلوا فوق خلافاتنا الصغيرة، احساسنا بالمصير المشترك، وتقديرنا لما بيننا من دم واحد،
 والذكريات الحلوة والصعبة معا، وفرحة اعمامي بنجاحي وشغلي وطموحي لا تقل عن فرحة والدي.
كل ذلك جعلني اشعر بمرارة وحزن لم اصادفهما من قبل عندما سمعت خبر رحيل "ابويا محمد عمران"، شعرت يومها ان ظهر والدي انكسر، وان طوق عائلتي الذي فقد احد جواهره في تسعينات القرن الماضي فقد للمرة الثانية جوهرة ثمينة  لا تقدر بثمن، فقدت عائلتي احد اهم اعمدتها الثمانية، واحد فرسانها الذين لن يعوضوا مهما كانت البركة فينا، احد ابطال حربي الاستنزاف واكتوبر المجيدتين، والاكثر مرارة ان رحيل البطل جاء مفاجئا وبدون وداع، رحل احد اعز الناس الي قلبي والذي كنا نلقبه دائما بانه "حبيب الشباب"، رحل حبيبنا، تركنا التاريخ ولم يترك لنا سوي الذكريات
 الحلوة عن الشجاعة والشهامة والاقدام، وخدمة الناس، حتي لو انفق كل ما في جيبه.
عمي الذي يحمل لقب "الصغير عمران" يعود لقبه الي ان ثلاثة من اعمامي اسمائهم "محمد" فحصلوا علي القاب مختلفة تميزهم وهي "الكبير والصغير والوسطاني" دائما ما كنا نطلق علية "وزير الدفاع" فقد كان ذو خلفية قتالية قوية ربما اكتسبها من مشاركته في الحرب، وذات يوم "اصطاد نمسين بطلقة واحدة" وهذه ليست خرافة او تفخيم لكنها حقيقة لبطل شارك في انتصار اكتوبر العظيم، كأن من اقرب اعمامي لوالدي خاصة في الفترة الاخيرة فقد كان رفيقه في اغلب تحركاته، وكان جزء مهما من عنوانين عائلتي البارزة، لتبقي اخر مرة سمعت فيها صوته حاضرة في ذاكرتي للأبد " انهينا مشكلة
 فاصل الارض لا تشغلوا بالكم .. كلنا بخير .. انا مع ابوك في البيت وخلصنا كل شئ .. اطمن .. المهم انا هجز ورقاتي علشان الحج السنة دي انا نويت متنساش" .. وانا ارد " البركة فيكم يا ابويا .. حاضر"، ثم يأتي الخبر سافر الجميع الي بلدتي تصحبهم الدموع، ونحن في طريقنا للمقابر قد يكون المعتاد ان يبكي ابناء المتوفي لكن ان تنهمر الدموع من جميع ابناء اشقائه، انه الحب، من المعتاد ان ينهار احدهم ويعلوا صوته غير مصدقا الفراق ويحاول منع انازاله الي "التربة"، لكن ان يفعل ذلك ابناء الجميع بلا استثناء انها لحظة لا تنسي، ولا توصف الا بان خسارتنا فيك لن تعوض، ندعو
 الله ان يجعل مثواك الجنة، وان يلهم اعمامي خاصة والدي الصبر، وان نتقبل فراقك بنفوس راضية بقضاء الله .. لا اراكم الله مكروها في عزيز لديكم.

[email protected]