عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

على فكرة

عبر إذاعة الأغانى المثبتة بشكل دائم على مؤشر الراديو فى سيارتى، انطلق صوت الست أم كلثوم، أو ثومة كما كان يحلو لعشاقها أن يدللوها، مترنما بقصيدة غابت عن الآذان منذ عقود ولم يعد لها مكان سوى فى قلوبنا، بعد أن تم حفظها لأسباب سياسية معروفة، فى أرشيف المحطات الإذاعية والتليفزيونية، وهى تشدو بحزن شجى عميق: أصبح عندى الآن بندقية إلى فلسطين خذونى معكم، إلى ربى حزينة كوجه المجدلية، إلى القباب الخضر والحجارة النبية. وحين وصلت ثومة إلى مقطع قصيدة نزار قبانى الذى يقول: عشرين عاما وأنا  أبحث عن أرض وعن هوية ، وجدتنى أوقف مقود السيارة، ثم أبدأ فى الحديث إليها قائلة: بقوا سبعين عاما  لا عشرين يا ست الكل، ونحن نبحث عن أرض وعن هوية. وما كدت أشرع فى شرح الأمر لثومة حتى ترامت إلى سمعى اصوات كلاكسات السيارات  الغاضبة من خلفى ومن أمامى، فيما أصوات قائدى السيارات بجوارى تتعالى ملوحة بإشارات تهديدية لهذه المرأة المجنونة التى توقف سيارتها فى ميدان عام مكتظ بالمارة والسيارات، لتحدث نفسها.

هرعت مسرعة لمكان قصى لأستمع لبقية القصيدة، كانت أم كلثوم تكمل بحزن ممزوج ببعض انكسار: عشرين عاما أبحث عن أرض وعن هوية.. أبحث عن طفولتى، وعن رفاق حارتى، عن صورى، عن كل ركن دافئ، وكل مزهرية. رفعت صوتى هذه المرة لعلها تسمعنى: والله العظيم يا ثومة بقوا سبعين سنة. لم تسمعنى وأكملت بصوت  قوى واثق ومطمئن مع تعالى  نغمات عبد الوهاب العسكرية المتصاعدة: قولوا لمن يسأل عن قضيتى، بارودتى صارت هى القضية.. من يوم أن حملت بندقيتى، صارت فلسطين على أمتار.. إلى فلسطين طريق واحد، يمر من فوهة بندقية.

لم تعرف ثومة كما عرفنا فيما بعد، أنه بعد أن سكتت اصوات المدافع، بات التفاوض من أجل التفاوض هو القضية، وأصبح التودد الرسمى العربى لإسرائيل هدفا لنيل الرضا الدولى عموما والأمريكى على وجه الخصوص. وصار الدين تجارة لتغييب وعى الشعوب وتقسيمها والاستيلاء على السلطة، وتدمير مؤسسات دولها. أكرمها الله ولم تعرف ثومة  كما صرنا نعرف، أن اللاجئين الفلسطينيين لم يعودوا وحدهم، شاركهم اللجوء فى بلاد خرائط المعمورة لاجئون من العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان والصومال وحتى لبنان، لنغدو أمة من اللاجئين.

صارت القدس يا ثومة بعيدة بعد السماء عن الأرض، شأنها  فى ذلك شأن بغداد ودمشق وطرابلس وصنعاء، بعد أن تفرغ العرب لغزو بعضهم البعض، والتحريض على بعضهم البعض، وإنفاق الأموال وازهاق الأرواح لهدم بعضهم البعض.!

 تسألين لماذا كل هذا الهول يا بنيتى؟ الجواب لدى نزار قبانى مرة أخرى ولأن أحدا لم يشأ أن يستمع له بل منعت أشعاره وأغانيه فى مصر لأنه قال:

إذا خسرنا الحرب لا غرابة، لأننا ندخلها، بكل ما يملك الشرقى من مواهب الخطابة، بالعنتريات التى ما قتلت ذبابة، لأننا ندخلها، بمنطق الطبلة والربابة.

خلاصة القضية، توجز فى عبارة، لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية.. نقعد فى الجوامع، تنابل.. كسالى، نشطر الأبيات، أو نؤلف الأمثال، ونشحذ النصر على عدونا، من عنده تعالى.. لو أحد يمنحنى الأمان، لو كنت أستطيع أن أقابل السلطان، قلت له يا سيدى السلطان كلابك المفترسة مزقت ردائى، ومخبروك دائما ورائى.. يا سيدى السلطان، لقد خسرت الحرب مرتين، لأن نصف شعبنا ليس له لسان.. لأن نصف شعبنا، محاصر كالنمل والجرذان.. لأنك انفصلت عن قضية الإنسان.

أنهت ثومة قصيدتها فى الوقت الذى ترامى إلى سمعى من شاشات التليفزيون فى المقاهى وشقق الجيران صوت ترامب وهو يعلن القدس عاصمة لإسرائيل، أغمضت عينى ورحت احلم مع نزار قبانى بجيل جديد غاضب: يفلح الآفاق، وينكش التاريخ من جذوره، وينكش الفكر من الأعماق.. لا يغفر الأخطاء.. لا يسامح.. ولا ينحنى،لا يعرف النفاق.