رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

كان الجميع سعيدا بمولده خاصة أنه ولد بعد شقيقه الأكبر شرنوبى بعشر سنوات ففرحت به أمه وخافت عليه من الحسد حتى أنها علقت قرطا فى أذنيه وأسمته يونس وكان والده قد نذر أنه إن أنجب ولدا أن يهبه لطلب العلم وأقام فى يوم سبوعه احتفالًا كبيرًا،

وعندما وصل إلى السادسة أحضر له شيخ الكتاب الكفيف (أبو دعلة) ليحفظ القرآن ولكن الشيخ كان يكثر من عقابه لكى يظهر لوالده أنه يتفنن فى تعليمه فكان ينفر منه حين مجيئه ويفر بعيدًا.

عاش صالح الشرنوبى حياة قاسية بين بلطيم مسقط رأسه والقاهرة التى انتقل إليها, عبر عنها بعدة دواوين وبعض الأزجال والقصص القصيرة والمسرحيات، وقصائد النثر والشعر الحر جمعت كلها فى مطبوع ضخم (675صفحة) فى سلسلة «من تراثنا» مع مقدمة عملاقة للدكتور عبد الحى دياب.

قال عنه الدكتور حامد طاهر (لقد كان الشرنوبى واعيا بقيمة عمله الشعرى، ومدركا تمام الإدراك أن الله تعالى قد منحه موهبة خاصة، وقدرة متميزة على كتابة الشعر المطبوع الجيد.. وحين يقابل مثل هذا الشاعر بجحود عصره، وتجاهل النقاد، يحس بالمرارة، وينطوى – فى النهاية – على نفسه.. لكنه بين الفينة والفينة يطلق أنينا مكتوما، يدل على أنه أبعد نظرا، وأحد بصرا من عيون جيله الأعمى).

ابتلعته القاهرة دون مأوى له فكان يتردد على أصدقائه يستضيفه هذا ويأويه ذاك لكن ذلك لم يستمر ورأى منهم جحودا كما رأى من أسرته وترامت أخباره إليهم وكان عقابه الكبير- والذى استهان به - أن يمنعوا عنه المال بعد أن أصبح موضع غمز ولمزبين أهل بلدته وأصبح والده لا يطيق سماع اسمه أو قصته بعد أن غدت مضغة فى الأفواه، أقنعه صديقه المخرج إبراهيم السيد أن يؤلف له أغانى فيلم فتنة مقابل خمسين جنيها أنفقها فى أيام معدودة، وحاول أصدقاؤه أن يجدوا له عملا يقتات منه فعثروا له على وظيفة مدرس فى مدرسة سان جورج لكنه ولأسباب غير واضحة تم فصله بعد ثلاثة أشهر.

وحينما ضاق بالشاعر الحال أكثر لجأ إلى محمود إسماعيل ليكلم صديقه كامل الشناوى ليعمل مصححا فى الأهرام وأرسل للشناوى بيتين من الشعر يشكو له فيها فرد عليه الشناوى ببيتين وجنيهين وعينه بمرتب اثنى عشر جنيها، وعندها قال صالح : استرحت الآن من عناء التفكير فى رغيف الخبز.

ولعل المقدمة التى كتبها لهذه القصيدة أبلغ من القصيدة نفسها حيث يقول: «إليك يا قاهرة إلى أضوائك القاسية التى عذبت عينى وأنا قابع هناك فى الجبل المضياف بصخوره الحانية وكلابه العاوية وصمته الكئيب وإلى هؤلاء المترفين الكسالى الذين ينكرون على إيمانى بالألم وعبادتى الدموع وإخلاصى للحزن, قالها بعد إن تأخر عن سداد أجرة الحجرة المتواضعة التى يسكنها فوق أحد السطوح فجمع متاعه القليل وذهب ليلتجئ إلى مغارة فى المقطم بجوار جبانة الغفير ويعيش فيها.

كان صالح سوداوى المزاج يكثر من ذكر الموت وسوء الظن بالنفس وبالناس وزاد من ذلك الشعور تضييق عائلته عليه ولوم تصرفاته باستمرار مع ما كان يظنه عن نفسه من دمامة بالوجه الملئ بحب الشباب حتى أنه حاول مغازلة فتاة ذات يوم فقالت اذهب فانظر إلى وجهك فحطم ذلك نفسيته تحطيما.

ورغم أن أمه كانت تبدو قاسية عليه فحالت بينه وبين حبيبته وكانت هى التى تضيق عليه أثناء فترة إقامته فى القاهرة إلا أنها كانت ترجو من ذلك أن يثوب إلى رشده ويعود إلى بلطيم ليعمل فيها مدرسا حتى أنها كانت تغضب عندما تعلم أن والده قد أرسل له بعض الأموال سرا إلا أنها كانت معجبة بشعره كثيرا ولها الفضل بعد الله فى الحفاظ على الكثير من أشعاره عندما انتابته حالة نفسية سيئة فأشعل النار وكاد أن يحرق كل أشعاره التى ألفها فهبت وخطفتها وأنقذتها من لحظة الجنون

حتى البيتين اللذان كتبا على اللوحة الرخامية التى جعلت على قبره فقد حفظتهما أمه عندما قالهما وهما فى وسط المقابر يوما وأصرت على أن يكتبا فوق قبره

يا زائرين لقبرنا

لا تعجبن لأمرنا

بالأمس كنا مثلكم

وغدا تكونوا مثلنا

وقرب فجر 17 من سبتمبر 1951 كان «صالح الشرنوبي» مستغرقًا فى جلسة هادئة على شريط القطار بجوار منزل العائلة، ولم ينتبه إلى القطار القادم ربما لأنه كان مشغولا بقصيدة جديدة، وعادته أنه إذا انشغل بقصيدة ذهل عما حوله، ولم ينتبه للقطار إلا وهو يصدمه فى رأسه، مطيحًا بجذعه بعيدًا، وتاركًا رجليه مبتورتين فى حادث مروع. وكانت أمه قد  استشعرت غيابه فأرسلت شقيقه عبد العزيز فى السادسة صباحا للبحث عنه وعندما رأى المشهد اغمى عليه ولم يفق الا قبيل الجنازة بقليل.

جمع الناس أشلاء «صالح»، وحرر الطبيب شهادة وفاة كتب فيها أنه «مصاب بصدمة عصبية ونزيف عام وكسر فى الجمجمة» وتم تشييعه إلى قبر كتبوا عليه «دفن شهيد الشعر والشباب.

هكذا مات الشاعر الشاب ابن السابعة والعشرين ابن مدينة بلطيم الذى عاش حياة كئيبة قاسية كان ولابد أن تصنع شاعرا سوداويا مثله ,  شاعر كان لا يرى إلا الموت حتى قابله فأشبعه وروى غليله.

بداية ونهاية بينهما حياة حافلة بالأحداث والغرائب والمتناقضات، لكنها لا شك تتماشى تماما مع حياته التى لم يحيها.

 

[email protected]