رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

أعاد الوفد من منفاه بعد ثورة يوليو لحضور طاغ.. فعرفته الجماهير المصرية

شن حرباً ضروساً على ثورة 1952.. وما قيل عن إنجازاتها.. وأسقط القناع عن الديكتاتورية

كل من يقترب من الباشا كان يدرك أنه أمام بحر عميق وهدوء كبير ومهابة خطيرة

سراج الدين زود كتائب التحرير بالمال والسلاح وتدريبهم على الحرب فى القناة

مسيرته العملاقة كانت مثالاً للأمل والنفس الطويل فى تحقيق الأهداف الوطنية

حتى فى جنازته كان شامخاً بقيمته ووطنيته عالياً فوق الصغائر والصغار

 

بحلول شهر نوفمبر يأتى موعد ميلاد فؤاد سراج الدين باشا الذى يحل فى الثانى منه.. ومع هذه الذكرى يجب أن نستعيد ذكرياتنا مع الباشا فى أوقات المد والجزر، وفى مراحل النهضة والأزمات.

فؤاد سراج الدين استطاع أن يحيل الهزائم إلى انتصارات أنه شخصية أسطورية أعاد الوفد من منفاه، الذى لاقاه بعد قيام ثورة يوليو إلى حضور طاغ، فعرفت الجماهير المصرية بعث الوفد على يد فؤاد سراج الدين.

عرفت فؤاد سراج الدين قبل قيام حزب الوفد ذهبت إلى قصره فى أواخر السبعينات من أجل استكمال عمل أكاديمى عن جريدة المصرى لسان حال حزب الوفد، رأيته مراراً هو وزميل عمره إبراهيم فرج باشا، وكانت الدعاية المضادة تشق طريقها إلى ذهنى عن رجل حزب الوفد الذى يمثل اليمين الى مهادنة السراى، وهى دعاية تركزت فى شخص الباشا الذى ذاق مرارة السجون بعد قيام الثورة وتحمل من الاضطهاد الكثير حتى الأعمال الدرامية لم تخل.. صورة الباشا، وسيجارة الشهير، وجسدت فيه صورة الرجل الذى يشمت فى العدوان على مصر من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل، الغريب أن هذه الشخصية هى التى غيرت الموازين وقلبت صورة مصر والحياة السياسية فيها رأساً على عقب.

ومن جهتى فقد أثمرت دراستى لصحافة الوفد ذلك النور الساطع الذى جعلنى أدرك أن مصر لم تولد على أبواب ثورة يوليو، كما كانوا يصورونها، وأدركت أنه كانت لدينا حركة وطنية شعبية وكفاح دستورى عظيم وحياة برلمانية محترمة ورقابة على المال العام قرأت صحافة عظيمة تؤثر تأثيراً بالغاً فى الحياة السياسية، وقد تسقط الحكومات وعرفت أن اقتصادنا كان دائناً لا مديناً رغم الاحتلال، وأن شعارات مجانية التعليم وقوانين العمال هى من إنجازات الوفد قبل الثورة، وكان إلغاء معاهدة 1936 وإعلان الكفاح المسلح عملاً غير مسبوق، فلأول مرة تخوض مقاومة القتال وأرضها ما زالت محتلة.

كتبت عن الوفد، وعن دوره فى جريدة «الأحرار» قبل أن يخرج حزب الوفد إلى النور، مما كان محل إعزاز وتقدير فؤاد سراج الدين، أما الوفد فقد فى البداية بحكم قضائى وكان يحيط بالوفد فى هذه المرحلة رجاله وشيوخه الذين أقبلوا بحماس بالغ من أجل هذه العودة، وعرفنا أن الباشا كان قوة كامنة طوال مدة نفيه وإبعاده كان ينتظر الفرصة التى يخرج فيها إلى النور وفعلها فؤاد سراج الدين، وعرفت مصر أفراحاً عظيمة، وإقبال المصريين على اجتماعات الوفد يستمعون للباشا الذى استأنف حياته السياسية بهجومه الكاسح على عهد الثورة، الذى شنه فى نقابة المحامين.. لم يعد فؤاد سراج الدين شاكراً أو مهادناً، بل شن حرباً ضروساً على الثورة وما قيل عن إنجازاتها، وأسقط القناع عن الدكتاتورية وما فعلته مصر، وقبل ذلك كان فؤاد سراج الدين هو من تصدى للدفاع عن نفسه فى محكمة الثورة واستطاع أن ينال احتراماً وتقديراً من حاكموه قائلين له نحن لا نشك فى وطنيتك ونزاهتك بالرغم من تعرضه للسجن لموقفه السياسى فقد رأت حكومة الثورة أن الباشا هو أهم شخصية وأخطر شخصية فلم تهادنه رغم استعداده للتفاهم بشأن قانون الإصلاح الزراعى، الا أنها كانت ترى فى الوفد أكبر منافس لها وكان سراج الدين على رأس قائمة من تخشاهم الثورة.

دعانى الباشا وإبراهيم فرج إلى دخول الوفد وإلى الكتابة فى جريدته، ففعلت وأجريت مع فؤاد سراج الدين أول حوار له نُشر فى جريدة «الوفد» على عددين، وقد تضمن الحوار بعض الأسئلة الشائكة وكانت إجاباته غير تقليدية، إذ سألته: هل يقبل الوفد دخول الناصريين والماركسيين فيه، فأجاب بالموافقة بشرط أن يلتزموا بخط الوفد.

كانت شخصية الباشا من الشخصيات المحيرة لا يستطيع أحد تفهم أبعاد هذه الشخصية إلا بعد فترة طويلة من التمحيص والمراجعة.

بعد طول معرفة تأكدت أن أحداً لا يمكن أن يستمتع بحق مكتسب لدى الباشا أنه يضعك غالباً فى نقطة البداية ومطلوب منك إثبات الجدارة والإخلاص.

كل من يقترب من الباشا يتولد لديه الإحساس أنه فى مواجهة بحر عميق وهدوء مريب ومهابة خطيرة، وأنه لا بد أن يكون لديه استعداد للإبحار الجيد أو الغرق!!

أظهرت التجربة المعاشة لى ولغيرى ما يعرفه الباشا عن نفسه جيداً.. عواطفه لا تحكمه أبداً قد يعارض من يحب وفد يرفع إلى القمة.. لا يحب.. أن عواطفه لا تحكمه أبداً إنما يوظف البشر وفقاً لمقتضيات الواقع وضروراته العملية غير أنه لا يفعل هذا فى تدن أو صغار.. هو بحق رجل الاختيارات الصعبة.. إن حديثه عن نفسه عن دوره فى الكفاح المسلح كان بمقدار.. لا يتحدث عن نفسه بفخر، وإنما جعلها هى تتحدث عنه بتاريخه المجيد.

نشرت حواراً مع الأستاذ محسن لطفى السيد «ابن أخ أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد» قال لى بفخر ما لم أسمعه من الباشا بنفسه: قولى للأجيال أن فؤاد سراج الدين كان له دور بطولى فى الكفاح المسلح عاينه بنفسه.. قال: لقد كنت من المشاركين فى الكفاح المسلح وكان فؤاد سراج الدين وهو وزير الداخلية فى هذا الوقت يصدر أمره بالقبض على المشتركين فى الحرب المسلحة يقبض عليهم فى الصباح ويفرج عنهم فى المساء والأدهى أنهم يخرجون من الحبس وهم يحملون أسلحتهم بين تصفيق الجماهير الهادرة أن فؤاد سراج الدين يتسم بالغموض فى اتخاذ مواقفه لا يستعرضها، فقد حدث أثناء الكفاح المسلح فى حكومة الوفد الأخيرة أن الباشا كان يأمر بأن تخرج المظاهرات تهتف ضده، ثم يتبعها بمظاهرات أخرى تهتف ضد الملك فاروق بما يوحى بأن موقف الجماهير أفلت من وزير الداخلية، ومع ذلك فقد كان الملك فاروق يقول عن الباشا: «أنا غير مستريح لهذا الرجل لله فى لله».

الغريب مثلاً أن الفكرة السائدة لفترة طويلة عن الباشا أنه منحاز للسراى، بينما دفع عدوان الضباط الأحرار للمشاركة فى الكفاح المسلح بعلمه وإرادته رغم أن دخول الجيش فى السياسة كان أمراً مرفوضاً، ولكن الباشا قرأ الواقع ووجد أن المرحلة تستدعى هذا التدخل.

وتشير الوثائق البريطانية إلى لهجة الاستفزاز الشديد من دور فؤاد سراج الدين الخطير فى حرب القناة، اتهمت الوثائق فؤاد سراج الدين بإمداد كتائب التحرير بالمال والسلاح وقيامه بتسريح بعض ضباط الجيش والبوليس لتدريبهم على الحرب فى القناة.

سجن فؤاد سراج الدين فى عهد أنور السادات فيما عُرف بخريف الغضب، لم ينس السادات للباشا دوره الكبير فى فضح ممارسات الثورة، ولم ينس له اكتساحه وشعبيته ولم يرحم شيخوخته فقد سجن وهو قد تجاوز الخامسة والسبعين وأفرج عنه بعد اغتيال السادات ووصول حسنى مبارك إلى الحكم.. التقيت به بعد خروج من السجن وقال له إن السادات لم يقتل إنما انتحر، فمن غير المعقول أن يسجن كل رموز الأمة فى ضربة واحدة.

كان ظهور جريدة «الوفد» يعد نصراً كبيراً للصحافة الحزبية كلها، لقد اشتعلت الجريدة حماساً وتأريخا لتاريخ الوفد، وامتلأت بالدراسات التاريخية الموثقة عن مصر ما قبل ثورة 1952 وما بعدها كان رئيس تحريرها الأستاذ الكبير مصطفى شردى، رحمه الله، يخوض معارك ساخنة مع كل من تصدوا للهجوم على الوفد أو فؤاد سراج الدين، بعد وفاة مصطفى شردى، رئيس تحرير الوفد، الأستاذ جمال بدوى، رحمه الله، وقد امتلأت الجريدة أثناء عهده بالدراسات واتسمت بالهدوء النسبى.

كان حضور فؤاد سراج الدين واضحاً على الجريدة فى كل عهودها وقد ظل يراجع بنفسه الأعداء قبل ظهورها ويحرص على الحضور إلى الحزب حتى وقت مرضه الأخير ووفاته.

ردود فعل الباشا ليست سريعة.. إنه كثيراً ما يتريث ويطيل الحبل وعندما ييأس من أحد يبدو صامتاً متجهماً محايداً فى انتظار لحظة البطش النهائية.. كانت علاقته بمكرم عبيد قبل الثورة نموذجاً للصراع المحسوب طويل النفس ونموذجاً أيضاً للتصفية النهائية التى لا تحتمل العودة.

كان مكرم عبيد من نفس نوع سراج الدين من حيث الذكاء والوطنية والسيطرة، بل لعله كان يتفوق على سراج الدين، حين شب الخلاف بماضيه الوطنى وتضحياته غير أن مكرم كان يختلف عن سراج الدين فى أمر مهم، وهو شدة انفعاله وعصبيته وغيرته التى تكاد تعميه، فبينما يُخضع سراج الدين انفعالاته لعقلانية صارمة، كما يخفى غيرته واستحواذه تحت قناع من المودة والإقناع، فإن مكرم عبيد كان كالنار التى تحرق كل شىء ولا تبقى على شىء وقد استطاع فؤاد سراج الدين أن يصفى مكرم عبيد ويقوده إلى النهاية بإبعاده عن الوفد تماماً.

قال لى الأستاذ مصطفى أمين، رحمه الله، وهو من الأعداء التاريخيين لفؤاد باشا: إننا كنا نشعر بأن هناك داهية وراء هذا الخلاف المستعر بين مصطفى الناس ومكرم عبيد لأننا نعرف أن النحاس رجل طيب ومن الصعب أن يصعد الخلاف إلى الحد الذى وصل إليه اكتشفنا فى النهاية أنه فؤاد سراج الدين، لم يستغل سراج الدين المعركة مع مكرم إنما ترك مكرم يندفع ويخطئ ثم ينفعل ويغضب ويتجاوز حده حتى تم إقصاؤه نهائياً من الوفد دون أن تتلوث يدا سراج الدين بما يشين، بالطبع فإن الدراما لها أبطالها وظروفها ودوافعها، لكن مكرم عبيد كان أكبر عدو لنفسه بالرغم من دور فؤاد باشا استدرج سراج الدين مكرم إلى الشطط الذى يعرف عنه وسحب البساط من تحت قدميه بعد أن أثار غيرته وأخرجه عن حده.

سألت الباشا مرة: من أى برج أنت؟ قال: العقرب، قلت له إنه برج الزعماء ولكنّ أصحابه قساة فى انتقامهم، علق علىّ فى البداية: أنا طيب جداً ولا أحفظ سراً حتى لمن يسىء إلىّ، قلت له فى إصرار مؤدب: أعتقد يا باشا أن هذا البرج عظيم، ولكن مشكلته هو الرد الباطش. أدرك أننى أتكلم بثقة، ففوجئت به يبادرنى بلهجة عكسية حيث حملت نظرته كل القسوة المخيفة، وقال لى: هل تعلمين أن من يدوس لى على طرف أخزق عينه، لكن بشرط أن يكون هو البادئ أخذ يحكى لى عن قصة كيف نكل فيها بموظف يفوقه مركزاً أيام كان فى النيابة لأنه تصور أنه أهانه أعاد على المشهد ببطء وقسوة وظل يردد باستمتاع لقد أرهبته جعلته يرتعش يضيع تماماً وأخذ يضحك طويلاً.

فؤاد سراج الدين مثل معظم السياسيين ولا سيما من عمل مثله وزيراً للداخلية يهتم بمعرفة كل الأخبار والمعلومات عن الشخصيات التى يتعامل معها، وهو يحرص على استثمار تناقضات الناس وعداواتهم فى معرفة من يهمه أمرهم.

كان الباشا يتسم بمغناطيسية شخصيته وجاذبيتها  الشديدة يثير الغيرة والتنافس رغبة فى التقرب منه.. إذا جاء أحدهم يهمس فى أذنه بأمر مستجد أن آخر قد جاء بعد فترة ليفعل نفس الشىء بشكل تلقائى. فؤاد باشا هو الآخر يعد إنساناً غيوراً تملكياً يريد من أعوانه أن يغنوا فى شخصيته العملاقة بدرجة أو أخرى، هو يفعل هذا بتؤدة وعمق وغموض.

وجهت للباشا أسئلة فى عهد حسنى مبارك عن عدم سماحه بخروج مظاهرات كبرى للوفد تقاوم النظام، أيضاً وجهت له أسئلة عن عدم موافقته على قيادة حملة عصيان مدنى.. كان الباشا حذراً يدرك مدى خطورة حكم الطوارئ وإمكان النظام من البطش بأبنائه وأحفاده الوفديين دون أن يتمكن من حمايتهم كما كان يفعل قبل الثورة.

كان فؤاد سراج الدين بمسيرته العملاقة مثالاً للأمل والكفاح والنفس الطويل فى تحقيق الأهداف الوطنية، كان فى حديثه الأخير معى لأول مرة لهجة يأس كامل من الأوضاع السياسية فى مصر، قال لى وقد استقبلنى قبل وفاته بشهور قليلة: إنهم يصرون على آرائهم ويتركوننا نتكلم حتى مللنا النصح والنقد.. الطوارئ كما هى.. تزييف الانتخابات.. الفساد.. إلخ.

وودعته ولم ألتق به إلا فى جنازته. أنا أسير باكية وسط الجموع التى حاصروها، وهو محمول على الأعناق.. ظل فؤاد سراج الدين حتى فى جنازته شامخاً بقيمته ووطنيته.. عالياً فوق الصغائر.. والصغار.