رؤى حكام وخيارات شعوب
أن تأتى متأخرا خير من ألا تأتى, فعلاقة مصر بأفريقيا كالمادة الخام, يمكن أن تكون علاقة فردية قليلة القيمة, ويمكن أن تكون قيمة مضافة, علاقة مصير، هكذا علمها الأجداد القدماء, وهكذا وعى لها زعماؤها ممن علم القيمة الحقيقية للوطن وأمنه القومى,
فالحياة فى مصر تبدأ من المنابع الاستوائية, انها معادلة حسابية لا يمكن أن يكون لها نتيجتان, انها نتيجة واحدة ووحيدة, هكذا ربطت مصر حدود أمنها القومى ووحدة مصيرها بقارة أفريقيا فاما أن نكون بمفردنا ولمفردنا فنكون طيعى الإرادة, أو أن نكون قوة معا فنكون عصبى الإرادة والهدف. وبعيدا عن حصص التاريخ القديم والتاريخ القريب, وبعيدا عن الانحيازات والخصومات, فمع بدايات ثورة يوليو 1952 وضعت مصر دوائر لحركتها الإقليمية والدولية, فكانت الدائرة الإفريقية إحدى الدوائر الثلاث مع الدائرة العربية والإسلامية التى تحركت مصر من خلالها لتكوين تكتل إقليمى يدافع عن مصالح القارة الإفريقية فى مواجهة أطماع الغرب الاستعمارى الطامع فى خيرات القارة البكر. فقد كانت القاهرة محط أنظار العالم بعد تبنيها قضايا الاستقلال بالقارة الإفريقية, ومساندة الثوار معنويا ولوجستيا, ومدهم بالسلاح فى أوقات كثيرة, وكان حى الزمالك حينذاك يشغى بأبناء أفريقيا الباحثين عن الحرية, وانطلق من هواء القاهرة إذاعات موجهة لكافة القارة الإفريقية, بالعديد من اللغات الحية والسواحلية, وأخذت مصر على عاتقها حمل ملفات القارة وقضاياها فى المحافل الدولية, وفتحت جامعاتها لجميع طلاب القارة لينهلوا من علمها, وأرسلت المدرسين لتعليم أبناء القارة, وفى مناطقها المقفرة أرسلت أطباءها لعلاج المواطن الأفريقى, وفى وسط غاباتها حفرت الآبار وشقت الطرق, فعزز ذلك من قيمة مصر, وزاد من ثقلها, كما أصبحت المنتجات المصرية من أقمشة وسلع منزلية وبعض الأسلحة والذخائر مطلبا هاما لدى المواطن الأفريقى، كما حفرت آبار المياه للزراعة والرى فى دول حوض النيل, وطهرت مجرى النيل فى القارة لتقليل الفاقد وسوء الاستخدام, فحفظت القارة السمراء لمصر الجميل, ووقفت بجانب الحقوق العربية فى الأمم المتحدة, وفتحت أسواقها للمنتجات المصرية, وأعطت الوزرات الأولوية للمنتج المصرى, فكانت مصر قبلة ومنارة لشعوب القارة السمراء. وكان لشركة «مصر للاستيراد والتصدير» الذراع الخفية للمخابرات المصرية, دور مؤثر وفعال فى المشاركة فى كثير من قضايا القارة من (أبيدجان) غربا إلى (مقديشيو) شرقا. فقد وعت القيادة المصرية جيدا الأهمية الإثيوبية لمصر, حيث أن الهضبة الحبشية تمد مصر بأكثر من 85% من مياه النيل مصدر الحياة للمصريين, فدعمت أواصل الترابط مع المملكة الإثيوبية, وساهمت فى تشييد الكاتدرائية الأرثوذكسية بالعباسية، فكان الإمبراطور لا يتوج على أثيوبيا إلا تحت أقدام البابا فى مصر, هكذا كانت رؤية القاهرة للبعد الأفريقى. ولكن لم يرض ذلك بعض مثقفى مصر, ورأوا أن التوجه نحو الشمال هو الأمثل, وأن ربط مصيرنا بالجنوب الأفريقى والشرق العربى سوف يعدم فرص الركب نحو المستقبل, وتغير الوضع بتغير الحاكم, وتبنت القيادة الجديدة هذه الرؤى، ودافعت عنها