رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

كيف رأت الدول الأفريقية نصر أكتوبر وكيف تفاعلت معه؟

د. وليد عتلم يكتب: نصر أكتوبر وأفريقيا

دكتور وليد عتلم
دكتور وليد عتلم

ساهم نصر أكتوبر فى التقارب بين الدول الأفروعربية وأفريقيا جنوب الصحراء

تغير تصور أفريقيا لإسرائيل.. من التعاون المتبادل فى السنوات الأولى إلى العزلة الدبلوماسية فى عام 1973

أسرار إدانة مؤتمر باندونج احتلال إسرائيل للأراضى العربية

 

من الملفات التى لا تلقى اهتماما وتركيزا كبيرين، ذلك الملف المتعلق بالدور الأفريقى فى نصر أكتوبر 1973، وتطور مسار العلاقات الإسرائيلية الأفريقية ما قبل نكسة 1967، انعكاسات ذلك على الصراع العربى الإسرائيلى بشكل عام، وحرب العزة المصرية فى أكتوبر 1973.

لذلك ونحن نحتفل بمرور 50 عاماً على نصر أكتوبر المجيد، يبقى التساؤل حاضراً حول موقف الدول الأفريقية من نكسة يونيو 67 ثم نصر أكتوبر 1973، وبشكل عام عن مسار وتطور العلاقات الأفريقية الإسرائيلية والتى انتهت للأسف بتغلغل كبير ومؤثر للدولة العبرية فى القارة الأفريقية.

ورغم أننا نتبنى عبر منبر الوفد العريق رؤية موحدة للقارة الأفريقية كوحدة واحدة لا فرق بين شمال القارة وجنوبها، لكن فى إطار حرب أكتوبر والصراع العربى الإسرائيلى سوف نفرق ما بين الدول الأفروعربية خاصة دول شمال أفريقيا، ودول أفريقيا جنوب الصحراء.

على مستوى دول شمال أفريقيا؛ كانت من الدول المتضامنة منذ اللحظات الأولى للصراع العربى الإسرائيلى، بل إن دولة مثل الجزائر كان لها موقف مشرف جدا فى حرب أكتوبر من خلال مشاركة قوية فى حرب بالقوات والسلاح وكذلك الدولة الليبية.

أما على مستوى دول أفريقيا جنوب الصحراء، يبقى التساؤل والإشكالية:

فيما يتعلق بمسار العلاقات الأفريقية الإسرائيلية نجد أن موقف دول أفريقيا جنوب الصحراء خضع لعدد من المحددات منها: 1- العوامل الاقتصادية والاجتماعية وحاجة الدول الأفريقية للتنمية واستغلال إسرائيل لتلك الحاجات. 2- دور الدول الأفريقية العربية ذات الأغلبية المسلمة ودور عامل الدين فى مسار العلاقات الأفريقية الإسرائيلية. 3- النفط العربى كسلاح سياسى.

لذلك؛ من أجل فهم وتفكيك الموقف الأفريقى من الصراع العربى الإسرائيلى وتحديدا نكسة يونيو 67 ثم نصر أكتوبر 73 لابد من مراجعة وتحليل مسار العلاقات الأفريقية الإسرائيلية، على النحو التالى:

أهمية أفريقيا بالنسبة للدولة العبرية بدأ حتى ما قبل قيام دولة إسرائيل فى الأراضى العربية؛ أفريقيا كانت المرشح الأول لأن تكون الوطن المؤقت لليهود قبل الانتقال للأراضى العربية المحتلة، وعندما انعقد المؤتمر الصهيونى الرابع فى ربيع عام 1903 بزعامة تيودور هرتزل، الحكومة البريطانية عرضت على المنظمة الصهيونية أن تعطيها مستعمرة كينيا فى شرق أفريقيا كوطن مؤقت لليهود، ليس فقط كينيا، تم عرض أيضا موزمبيق، والكونغو البلجيكى أو ما يطلق عليها زائير، وذلك قبل انشاء الوطن الدائم لليهود فى فلسطين.

غير أن المؤتمر الصهيونى السابع الذى عقد فى عام 1905 قرر نهائيا رفض مشروع الوطن المؤقت لليهود فى شرق أفريقيا، وتركيز هجرة اليهود إلى فلسطين. لكن هرتزل ظل ينظر باستمرار إلى أفريقيا على أنها امتداد ممكن لإسرائيل أكثر من كونها وطناً لليهود وكان يرى أن شرق أفريقيا خاصة دول كينيا - إثيوبيا - جنوب السودان- شمال أوغندا هى وجهة مناسبة للموجة الثانية من الاستعمار اليهودى أو وجهة احتياطية وبديلة. والموجة الأولى فى أرض الميعاد فى فلسطين.

هنا بدأت إسرائيل فى الربط ما بين الإيديولوجى ما بين الصهيونية وبين الحركة الأفريقية الجامعة السوداء، والتأكيد على أنه كل من اليهود والأفارقة السود يجمعهم تاريخ مشترك من الاضطهاد والتمييز، ومن ثم يمكن أن يكون لهم مستقبل مشترك، وأن مساعدة إسرائيل للأفارقة الزنوج هى مساعدة لشعوب عانت من الآلام والمآسى كما عانى الشعب اليهودى.

وبناء عليه أصبحت أفريقيا محور اهتمام كبير من الدولة الإسرائيلية بعد قيامها فى 1948، وحصول الدول الأفريقية على استقلالها من الاستعمار خاصة مع المقاطعة العربية لإسرائيل والعزلة السياسية والاقتصادية التى فرضت على الدولة العبرية وإغلاق قناة السويس والموانئ أمام الدولة العبرية، فكان لابد لها من منفذ ومتنفس وطرق بحرية بديلة عن قناة السويس، ولم تجد أفضل من قارة أفريقيا اللى تمتلك موقعا استراتيجيا مميزا وطرقا بحرية ممتدة.

وهو ما تحقق لإسرائيل بعد احتلال أم الرشراش على البحر الأحمر وميناء أشدود على البحر الأبيض المتوسط 1956 وتحويله لميناء إيلات الذى أصبح طريقا لنقل التجارة القادمة من أفريقيا إلى أوروبا وبالعكس. وبالتالى بعد تأمين حرية الملاحة فى مضيق إيلات أصبحت أفريقيا أولوية أولى بالنسبة لإسرائيل.

لكن نقطة التحول فى مسار التغلغل الإسرائيلى فى أفريقيا كانت مؤتمر باندونج 1955، لم توجه الدعوة لإسرائيل لحضور المؤتمر، بل إن البيان الختامى للمؤتمر أدان احتلال إسرائيل للأراضى العربية.

وفى السنوات التى تلت ذلك، بدأ موقف العالم الثالث تجاه إسرائيل والفلسطينيين فى التبلور، وفى الاجتماعات الأولى لمؤتمرات حركة عدم الانحياز (1961) و1964 فى بلغراد والقاهرة، كانت إسرائيل هدفًا، وتم إدانتها بسبب السياسات الإمبريالية فى الشرق الأوسط.

بيئة استقطاب دولية نتيجة الحرب الباردة

شملت البيئة الأيديولوجية الدولية والإقليمية حالة من الاستقطاب الحاد، ليس فقط الاستقطاب السياسى لكن الأيديولوجى أيضاً، ولم يقتصر الأمر على الاشتراكية والرأسمالية والشيوعية فحسب، بل اليهودية أيضا القومية، والقومية العربية، والقومية الأفريقيبة.

على مستوى الكتلة الغربية؛ أرادت الولايات المتحدة والكتلة الغربية تقليص الحضور والتأثير السوفيتى فى الشرق الأوسط وأفريقيا وحول العالم؛ وكان لدى الولايات المتحدة التزام تجاه الحفاظ على إسرائيل وصيانة وجود الدولة حديثة النشأة 1948 بعد وعد بلفور نوفمبر 1917؛ وقدمت الدعم السياسى والاقتصادى والعسكرى لإسرائيل؛ أرادت الولايات المتحدة أيضا الحد من نفوذ مصر.

على مستوى الكتلة الشرقية؛ عمل السوفييت فى المقابل على تقليص نفوذ وحضور الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى فى الشرق الأوسط وأفريقيا. أراد السوفييت تأمين نفوذ أكبر فى المنطقة لأنفسهم؛ وعملوا على تقديم الدعم السياسى والعسكرى لمصر.

وعلى الرغم من اعتبار البريطانيين الإسرائيليين منافسين لهم فى القارة الأفريقية؛ لكن مع ذلك، اعتبرت بريطانيا مصر واحدة من الدول الأكثر عداء لها بسبب الدعم الذى قدمته مصر لحركات التحرر الوطنى الأفريقية فى مواجهة الاستعمار الإنجليزى والفرنسى فى القارة السمراء.

بعد تأميم قناة السويس كان لدى الكتلة الغربية التزام قوى تجاه بقاء إسرائيل أراد الفرنسيون أيضاً وقف تدهور الإمبراطورية الاستعمارية فى القارة الأفريقية. وانضمت إلى بريطانيا والولايات المتحدة لدعم إسرائيل ضد مصر. وعمل هذا التكتل على التركيز على الادعاءات الخاصة ضد مصر والعرب، وعلى رأسها إغلاق قناة السويس فى وجه التجارة العالمية الدول العربية (كمجموعة معادية لإسرائيل فى المقابل وبقيادة مصرية عملت على محاولة عزل إسرائيل فى المحافل الداخلية؛ وبدأت فى دعم الدول الإفريقية حديثة الاستقلال ضد إسرائيل، ومساعدة حركات التحرر الوطني؛ قدمت المساعدات التنموية إلى أفريقيا؛ روج للإسلام فى أفريقيا جنوب الصحراء.

بدأت الدول الأفريقية جنوب الصحراء فى تحقيق مكاسب الاستقلال عن الحكم الاستعمارى منذ منتصف الخمسينيات. هذه الدول حديثة الاستقلال واجهت مشاكل عديدة ومعقدة فيما يتعلق بتنميتها الاجتماعية والاقتصادية. وعندما أصبحت دولا مستقلة، أصبحت أيضًا أعضاء فى المنظمات الإقليمية والدولية، وبالتالى تعرضت لمجموعة واسعة من المشكلات العالمية والإقليمية التى كانت موجودة خارج حدودها الإقليمية، وبالتالى أصبحت فى خضم الأحداث العالمية التى شهدتها تلك الفترة؛ على سبيل المثال، النضال من أجل استقلال البلدان الأفريقية الشقيقة، والفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا، ومن خلال عضويتها فى الأمم المتحدة أصبح الكثيرون منخرطين بشكل وثيق فى الصراع العربى الإسرائيلى، والحرب الباردة على المستوى العالمى. عندما انفجرت أحداث الصراع فى الشرق الأوسط، كدول ناشئة، بدأ الكثيرون فى لعب الأدوار وفقًا لما تمليه المصلحة الذاتية فى بعض الأحيان، بينما تصرفوا فى أحيان أخرى بشكل جماعى تقريبًا لتعزيز مصالح الجسم الأوسع للدول الأفريقية حديثة الاستقلال، فالصراع العربى الإسرائيلى لم يقتصر على المنطقة فحسب فى الشرق الأوسط، والقوى العظمى التى انخرطت فى ذلك الصراع عملت على اجتذاب وتشكيل تكتلات من خلال توفير المساعدات وتقديم الدعم لكل طرف من أطراف الصراع؛ لقد شاركت فيها القوى الاستعمارية السابقة لفرنسا وبريطانيا، بالإضافة إلى دول أوروبية ودولية أخرى فى دعم إسرائيل على حساب المجموعة العربية.

كان للصراع أيضا تأثير مهم على الدول الأفريقية السوداء المستقلة حديثًا، فى شروط دخولهم فى الشئون العالمية. نتيجة الحرب الباردة؛ كان النظام العالمى فى ذلك الوقت ثنائى القطب، واستقطب العالم ما بين الكتلة الغربية أو إلى جانب الكتلة الشرقية بينما دول العالم الثالث المستقلة حديثا فى محاولتها تجنبها العضوية فى أى من الكتلتين، أنشأت حركة عدم الانحياز، كما عملت الدول حديثة الاستقلال على تأسيس منظماتها الإقليمية الخاصة التى ولدت منها تجاربهم وأيديولوجيتهم كأمم فردية أو كمجموعات إقليمية، وتوجيه سياستها الخارجية وعلاقاتها الدولية وفقاً لذلك؛ تأسست منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963 من قبل الدول المستقلة فى أفريقيا من كل من الدول الأفرو عربية، ودول أفريقيا جنوب الصحراء، أصبحت هذه الدول أيضًا جزءًا من جامعة الدول العربية. وأصبح على مستوى كل من الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية أن الدول الأفريقية السوداء أصبحت أكثر مشاركة فى المساعدة فى البحث عن تسوية سلمية فى الشرق الأوسط.

الصورة أعلاه تصف أنماط التفاعلات وحالة الاستقطاب الحاد بين الفاعلين الدوليين فى ذلك الوقت، بما يعكس الترابط بين الوحدات المختلفة أيضًا الترابط الذى جعل الدول تبدو أكثر حساسية للتطورات داخل الدول الأخرى. على سبيل المثال، كانت الدول الغربية حساسة تجاه العزلة المفروضة على إسرائيل ما بعد حرب 48، فضلا عن احتمال أن السوفييت قد يكونون قادرين على زيادة نفوذهم فى العالم العربى. لذلك لجأت الولايات المتحدة إلى دعم إسرائيل من أجل الحد من النفوذ السوفييتى فى منطقة الشرق الأوسط، وكان القلق الغربى كبيرا بشأن تهديد التوسع العسكرى السوفييتى. كان بعض الاستراتيجيين العسكريين الأمريكيين سعداء بالتوصية ببيع أسلحة متطورة لإسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، ونظرًا لأن الاستخبارات الإسرائيلية كانت تتسم بالكفاءة، فقد كانت الولايات المتحدة سعيدة بتبادل الرسائل الإخبارية للحصول على معلومات استخباراتية حول الأنشطة السوفيتية. ومع ذلك، أدى ذلك إلى عدم ثقة أفريقيا جنوب الصحراء فيما بعد بإسرائيل خاصة بعد الموقف الإسرائيلى من العنصرية البيضاء فى جنوب أفريقيا، وقدرة العرب على الاستفادة من العلاقات الأمريكية الإسرائيلية فى هجومهم على إسرائيل. كانت الدول الأفريقية حديثة الاستقلال حساسة لاحتياجاتها الخاصة إلى المساعدات التنموية، بالإضافة إلى موقفهم المناهض للاستعمار والقلق العام بشأن الأراضى المحتلة. كانت إسرائيل حساسة تجاه عزلتها السياسية وكذلك تجاه التطور المبكر مشاكل الدول الأفريقية السوداء. قدم الإسرائيليون المساعدة التنموية للدول الأفريقية المستقلة، وفى المقابل قللت من عزلتها السياسية لفترة من الوقت كان العرب حساسين لحاجتهم الخاصة إلى تركيز اهتمام العالم على القضية الفلسطينية والحاجة إلى الحصول على حلفاء سياسيين وأصوات فى الساحة الدولية. أدت هذه الحساسيات المختلفة إلى العديد من مخططات التعاون وتشكيلات التحالفات السياسية ما بين الصداقة والعداء.

وعلى الساحة الدولية، دار موضوع التداول فى اجتماع حركة عدم الانحياز حول إدانة القوى الغربية للتواطؤ فى تفاقم التوترات الدولية ودعم الأنظمة الرجعية فى العالم الثالث. على سبيل المثال، كانت فيتنام وجنوب أفريقيا والصراع العربى الإسرائيلى على جدول الأعمال وتمت دعوة الدول إلى تبنى مواقف محددة بشأن هذه القضايا. وتم وضع إسرائيل على قدم المساواة مع البرتغال وجنوب أفريقيا وروديسيا، كدولة استعمارية وعنصرية، لقد تم وضع الفلسطينيين على قدم المساواة مع حركات التحرر فى أفريقيا.

بداية التغلغل

بناء عليه بدأ قيادات إسرائيل فى البحث عن تأييد لشرعية الوجود اليهودى خارج الدائرة العربية والآسيوية، وبدأ رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق ليفى أشكول جولة أفريقية عام 1955، ثم تعيين جولدا مائير وزيرة للخارجية عام 1956، فى عام 1957م قام (موشى ديان) بزيارة كل من ليبيا وغانا وبعد عام فقط أى فى 1958م انطلقت جولدا مائير وزيرة الخارجية آنذاك بزيارة كل من ليبيريا وغانا ونيجيريا والسنغال وساحل العاج فى زيارة استمرت لمدة خمسة أسابيع، التقت خلالها برموز حركات التحرر الوطنى الأفريقى، وفى كلمة لها أمام الكنيست قالت: «إن الدول الأفريقية التى زرتها تضم شعوباً طيبة وصادقة، وبعيدة عن العُقد، وتستحق بذل المعونات لها، ويجب ألا تقتصر صداقتنا على أوربا وأمريكا».

انخراط دول أفريقيا جنوب الصحراء فى الصراع العربى الإسرائيلى بدأت بعد حصول العديد من الدول الأفريقية على استقلالها مطلع الخمسينيات بدأت الدول حديثة الاستقلال فى عضوية المنظمات الإقليمية والدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة لتصبح الكتلة الأكبر فى التجمع الدولى، وده اللى لفت انتباه إسرائيل فى الوقت ده واللى كانت بتبحث عن التأييد والاعتراف الدولى لشرعنة وجودها واحتلالها للأراضى العربية.

هنا وجه قادة الدولة العبرية أنظارهم إلى أفريقيا بهدف الحصول على دعم وتأييد الدول الأفريقية لما لها من وزن فى المنظمات الدولية، وبالتالى كسب تأييد الدول الأفريقية هو تدعيم وتقوية لموقف وأهداف الدولة العبرية.

هذا الواقع عبر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق ديفيد بن جوريون عندما أكد أن «الدول الأفريقية ليست غنية، لكن أصولها وقيمتها التصويتية فى المحافل الدولية تجعلها تعادل قيمة الدول العظمى والغنية».

لذلك عمدت إسرائيل إلى استغلال سلاح المساعدات، وقدمت المساعدات الفنية خاصة فى مجال الزراعة، والصحة، وكذلك المساعدات العسكرية والأمنية، التى كانت على قدر كبير من الأهمية من أجل تثبيت دعائم الدولة الأفريقية الحديثة وفرض السيطرة عليها، وقدمت إسرائيل نفسها للدول الأفريقية حديثة الاستقلال على أنها دولة صديقة تمد يد المساعدة للدول الأفريقية، وهو ما لقى ترحيب من قادة الدول الأفريقية فى ذلك الوقت.

على سبيل المثال؛ الزعيم الكينى «جومو» «كينياتا» فى خطاب له بمناسبة أول عرض جوى لسلاح الجو الكينى بعد الاستقلال، قال إن عددا من الطيارين المشاركين فى عرض تلقوا تدريبهم فى دولة إسرائيل، ووجه شكره وامتنانه لحكومة إسرائيل على استقبال وتدريب الطيارين الكينيين.

هنا نجحت دولة إسرائيل فى إيجاد موطئ قدم لها فى أفريقيا، ومد جسور التواصل والعلاقات مع الدول الأفريقية، خاصة عندما نجد أن دولة ليبيريا صوتت لصالح قرار تقسيم فلسطين، وكانت ثالث دولة تعترف بإسرائيل على مستوى العالم، وكانت من أوائل الدول التى اقامت علاقات دبلوماسية مع الدولة العبرية 1957 بينما غانا هى أول دولة أفريقية يفتتح فيها كيان الاحتلال سفارة له عام 1957.

إسرائيل نجحت فى تنمية الصداقات السياسية والتجارية مع قادة الدول الأفريقية، تم إنشاء اتصالات مع هؤلاء القادة فى المؤتمرات وتبادلت إسرائيل الاعتراف الدولى بالدول الأفريقية المستقلة حديثا، وبحلول عام 1962، كان لإسرائيل عشرون سفارة فى أفريقيا، ونجحت سياسة إسرائيل الخارجية فى كسب التأييد السياسى لأفريقيا على الساحة الدولية الأكثر من كده نجحت الدبلوماسية الإسرائيلية فى إقناع الدول الأفريقية جعل القضية الفلسطينية والصراع فى الشرق الأوسط خارج جدول أعمال المؤتمر منظمة الوحدة الأفريقية حتى عام 1967، على الرغم من جهود مصر وجهود الدول العربية الأخرى.

وهو ما عبر عنه عدد من الزعماء الأفارقة علنا على سبيل المثال فى عام 1965، قال جولیوس، نیریری، رئيس تنزانيا: «نحن لن نسمح لأصدقائنا بتحديد من هم أعداؤنا» فى إشارة منه للدول العربية، نفس الشيء عبر عنه الرئيس التشادى فرانسوا تومبالباى بقوله: «تشاد لن تسمح لنفسها بالتورط فى النزاع العربى الإسرائيلى. وأن تشاد تعارض بشدة أى محاولة لإقحامنا فى أى نزاع أو توريطنا فيه، وأننا لن نكون أداة لأى دولة مهتمة باستغلال هذا النزاع فى أراضيها لتحقيق المصلحة الخاصة».

لذلك؛ حتى عام 1972 كان لإسرائيل علاقات مع كل الدول الأفريقية جنوب الصحراء باستثناء دولتى الصومال وموريتانيا. وهو ما يوضح مدى التغلغل الإسرائيلى فى القارة الأفريقية فى ذلك الوقت فى مقابل تراجع كبير للدبلوماسية العربية، باستثناء مصر التى كانت أكثر الدول العربية نشاطا فى السعى إلى علاقات جيدة مع أفريقيا جنوب الصحراء، كان لديها ست عشرة سفارة فى أفريقيا السوداء فى عام 1964، وأربع وعشرون سفارة فى عام 1966، وبحلول عام 1973 أنشأت بعثات دبلوماسية فى جميع البلدان الأفريقية المستقلة.

وهنا يظهر تساؤل مهم

حول التناقض فى العلاقات بين الدول الأفريقية حديثة الاستقلال والدول العربية، وتحديدا مصر عبدالناصر، اللى كانت الداعم الأكبر لحركات التحرر الوطنى الأفريقية فى مواجهة الاستعمار، وبالتالى كان من المنتظر أن تدعم الأنظمة الأفريقية الجديدة أكثر دولة ساندتها فى الحصول على الاستقلال فى مواجهة إسرائيل.

وعلى هذا عكست العلاقات بين أفريقيا والدول العربية فى تلك الفترة ظاهرة جيوسياسية وثقافية ومتناقضة. وحتى قيام الثورة المصرية 23 يوليو 1952، ثم فى عهد الرئيس عبدالناصر ودعمه واستضافته لحركات التحرر الوطنى الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى، كانت مواقف معظم الأفارقة السود تجاه الشرق الأوسط إما غير مبالية أو عدائية. وبحلول ستينيات القرن الماضى، ظهرت الحركات القومية على جانبى الصحراء، وأدت إلى تواصل بين زعماء الدول على جانبى الصحراء. هنا ظهرت التناقضات والأعمال العدائية مرة أخرى عندما بدأ العرب فى دعم الحركات الانفصالية فى الدول الأفريقية السوداء، على سبيل المثال تشاد. وعلى نفس المنوال، كانت هناك مشاعر عربية معادية لأفريقيا لأن الفرنسيين استخدموا القوات من المستعمرات الأفريقية للسيطرة على الانتفاضتين السورية واللبنانية فى عام 1945 وللقتال ضد الثوار الجزائريين من عام 1954 إلى عام 1962.

لكن هذا التناقض فى المسلك السياسى للدول الأفريقية حديثة الاستقلال يمكن تفسيره بأن معظم القيادات الأفريقية خاصة مرحلة ما بعد التحرر والاستقلال؛ هى قيادات نشأت وتربت فى ظل التعليم والتراث الغربى الأنجلوسكسونية اللى انتقل للنخبة الأفريقية عن طريق بعثات التبشير والبعثات التعليمية لعواصم المدن الغربية، على وجه الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية هنا النخبة الأفريقية الجديدة تعاملت ببرجماتية واضحة جدا على أنه العلاقات مع إسرائيل تحقق المصالح الأفريقية، خاصة فيما يتعلق بالأمن والتنمية وانهم قبلوا المساعدة من إسرائيل فى الوقت الذى أرادوا فيه بشكل خاص العثور على مصادر بديلة للدعم بخلاف القوى الاستعمارية السابقة.

الأكثر من ذلك؛ كان هناك اعجاب من القادة الأفارقة بتجربة إسرائيل وتقدمها العسكرى والعلمى. أضف لذلك ميراث المدركات السلبية الموروث والمتبادل تجاه العرب، وهو الوتر الذى لعبت عليه إسرائيل بعنف خاصة فيما يتعلق بتأكيد أن هناك تجربة تاريخية ونفسية مشتركة بين اليهود والأفارقة خاصة فيما يتعلق بالاضطهاد العربى لكلا الطرفين وتجارة الرقيق وذبح اليهود، وهو ما استغلته الحركة الصهيونية العالمية لصالحها عبر دول الاستعمار التقليدى فى أفريقيا. لدرجة أنهم أطلقوا على الحركة الأفريقية الجامعة اسم «الصهيونية السوداء».

كذلك الجاليات اليهودية المنتشرة فى عديد الدول الأفريقية مثلت أساس لتواصل إسرائيلى قوى مع أفريقيا، يكفى للتدليل أنه حوالى 15% من السكان فى إسرائيل هاجروا اليها من أفريقيا.

كذلك مثلت الحاجات التنموية محددا فاعلا ومؤثراً لدى الدول الأفريقية؛ عندما قررت الدول الأفريقية حديثة الاستقلال أن تقبل معونات التنمية من دول أخرى غير القوى الاستعمارية السابقة، قبلوا المساعدات من كل من الدول العربية وإسرائيل. لكن لم يكن العرب قادرين على منافسة المساعدات الفنية التى يمكن أن تقدمها إسرائيل لدول أفريقية منفردة. قبلت الدول الإفريقية المساعدات من إسرائيل فى جميع مجالات التنمية تقريبًا. وساعدت هذه الاهتمامات التنموية فى تحديد مشاركة أفريقيا على الساحة الدولية. وكانت هذه الدول المستقلة حديثاً على استعداد للانتقال من الاعتماد التقليدى على الغرب إلى إيجاد التعاون مع الشرق، لقد طوروا القدرة على تحويل الضعف إلى شكل من أشكال التأثير ووجدوا طرقًا لتحقيق رغباتهم فى مجال التنمية، ووقعوا 21 اتفاقية تعاون مع إسرائيل بين عامى 1960 و1968.

تحول كبير

غير أنه بعد العدوان الإسرائيلى عام 1967، بدأت الدول الأفريقية السوداء تنظر إلى الوضع بشكل مختلف. وبدأت مواقفهم تتغير، ليس فقط تجاه العرب الذين طالما كانوا معادين لهم ومتشككين بهم تحت تأثير المدركات التاريخية السلبية المتبادلة، ولكن أيضًا تجاه الإسرائيليين. وتغيرت مواقفهم من الإعجاب بالإسرائيليين إلى الشك والإحباط، وبدأوا يعيدون النظر فى الإسرائيليين، نظر الأفارقة إلى «إسرائيل» بوصفها قوة احتلال تحتل أراضى دولة أفريقية.

هنا أخطأ الإسرائيليون فى فهم الفلسفات الأساسية للأفارقة السود خاصة فيما يتعلق بسلامة الحدود وسيادة الدول، لأن الأفارقة يعتزون جدا نتيجة تجارب الاستعمار بمبادئ سلامة وقدسية الحدود.

كما أخطأت إسرائيل فى إدراك الأهمية والنفوذ المتزايدين للسكان المسلمين داخل الدول الأفريقية السوداء، بل وأخطأوا فى فهم الحدود أو القيود المفروضة على البلدان التى بها أعداد كبيرة من السكان المسلمين فيما يتعلق باستمرار العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل. كانت تلك الدول التى تضم عددًا كبيرًا من السكان المسلمين أكثر ميلاً إلى دعم القضية العربية.

لذلك؛ أكدت الدول الإفريقية فى قمة منظمة الوحدة الأفريقية عام 1967 م تضامنها مع الشعب العربى فى مواجهة العدوان الإسرائيلى، وقرر مؤتمر القمة الإفريقية عام 1969م ضرورة تطوير التعاون العربى الإفريقى فى مختلف المجالات، وأصدر الرئيس الأوغندى عيدى أمين فى إبريل 1972م قراراً يستعيض فيه عن 470 خبيرا إسرائيليا ليحل محلهم خبراء عرب وهذا ما شجع الكثير من الدول الإفريقية على قطع علاقاتها مع إسرائيل، وفى نهاية المطاف حاولت الدول الأفريقية السوداء من خلال منظمة الوحدة الأفريقية التوسط بين العرب والإسرائيليين فى عام 1971، وقرر مؤتمر القمة الأفريقى فى 23 يونيو 1971 تأليف لجنة من ستة رؤساء أفارقة من الأطياف الأفريقية كافة بالمنظمة، وهم: الإمبراطور الإثيوبى هيلاسلاسى، الرئيس السنغالى ليوبولد سيدار سنجور، جوليوس نیریرى رئيس تنزانيا، وهو فنيه بوانيه رئيس ساحل العاج، الرئيس أحمدو اهيجوا رئيس الكاميرون، ووليم توبمان رئيس ليبيريا، وذلك من أجل إقناع إسرائيل بتقديم تنازلات بغية التوصل لحل سلمى فى القضية، وإعادة فتح قناة السويس، وتم الاتفاق على اعتبار مشكلة الشرق الأوسط من القضايا الأفريقية، لكن محاولتهم فشلت فى تحقيق التغيير المنشود.

بدأت صــــــورة إسرائيل تهتز فى أذهان الأفارقة. وفى الوقت الذى كانت تحرص فيه منظمة الوحدة الأفريقية على عدم إدانة إسرائيل بدأت تتدرج فى التعريض لموضوع القضية الفلسطينية مطالبة بالانسحاب الإسرائيلى من الأراضى العربية المحتلة ومع ازدياد التقارب العربى - الأفريقى وإزاء التعنت الإسرائيلى بدأت منظمة الوحدة الأفريقية تتخذ قرارات أكثر حزماً، وصولاً للقرار الذى اتخذته المنظمة فى 29 مايو 1973م تضمن تحذيراً رسمياً لإسرائيل بأن رفضها الجلاء عن الأراضى العربية المحتلة يعتبر اعتداء على القارة الأفريقية وتهديداً لوحدتها، وأن الدول الأعضاء فى منظمة الوحدة الأفريقية تعتبر نفسها لذلك مدعوة لأن تأخذ -منفردة أو بصورة جماعية- أية إجراءات سياسية واقتصادية مناسبة وصد ذلك العدوان. وكان هذا القرار نقطة تحول فى تطور رؤية أفريقيا للنزاع العربى الإسرائيلى.

وبعد القرار مباشرة سارعت ثمانى دول أعضاء فى المنظمة إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع الكيان الصهيونى، ثم قطعت غالبية الدول علاقتها تباعاً بعد حرب أكتوبر 1973م، وبلغ عدد الدول اللى قطعت علاقاتها بإسرائيل نحو 29 دولة أفريقية فى دعم قوى ومباشر للطرف العربى ممثلا فى مصر وسوريا فى مواجهة إسرائيل.

مع ترأس الرئيس الجزائرى السابق عبدالعزيز بوتفليقة رئاسة الجمعية العامة للأمم المتحدة (واللى كان وزير خارجية الجزائر فى الوقت ده) نجح فى استصدار قرار فى نوفمبر عام 1975، صدق عليه عشرون دولة أفريقية وامتنع 12 عن التصويت ورفضته 5 دول باعتبار الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية، وهنا تم ضرب إسرائيل بنفس السلاح اللى سعت عليه وهو الكتلة التصويتية الأفريقية فى المنظمات الدولية.

هنا يمكن القول إن كل من الإسرائيليين والعرب أخطأوا فى فهم وتقدير أفريقيا جنوب الصحراء، ورغبة الدول الأفريقية المستقلة حديثا فى السعى إلى خلق سياسة خارجية مستقلة، لقد كانت سياسة خارجية ليست مستقلة عن القوى العظمى فحسب، بل مستقلة أيضًا عن كليهما، الإسرائيليين والعرب، فالطبيعة العدائية للعلاقات بين العرب وإسرائيل دفعت كليهما إلى التطلع إلى الدول الأفريقية الجديدة بحثًا عن حلفاء سياسيين. وبينما كانت كل دولة تسعى إلى تحقيق أهدافها الخاصة كانت الدول الأخرى ذات أهمية فقط إلى الحد الذى تمثل فيه فرصا أو قيودًا على تحقيق الهدف.

فى كتاب «كتاب السياسة الخارجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية»، يستخدم جيمس سبانيير تشبيه اللعبة لوصف كيفية تفاعل الدول مع بعضها البعض فى غياب السلطة العليا. ويشرح كيف تسعى كل دولة، باعتبارها لاعبًا فى لعبة تنافسية، إلى تعزيز مصلحتها الخاصة فى الصراع مع مصالح الدول الأخرى؛ أن المخاطر أو المكافآت حاسمة البقاء، أو بعضه، وتوفير درجة الأمان، أو النفوذ، أو المكانة، أو الثروة. فكل دولة تنظر إلى العالم من منظورها الخاص، وتخطط استراتيجيتها لتعزيز أمنها وأهدافها وفقا لذلك. ويصف هذه الألعاب بأنها: ألعاب الخصوم، وألعاب الاصطفاف، وألعاب الاستعداد (سباق التسلح)، والألعاب الاقتصادية والألعاب السياسية والعسكرية، وبالإشارة إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، يمكن ملاحظة كل هذه الألعاب بوضوح خلال تلك السنوات، 1967. - 1973. وهو ما عملت عليه الدول الأفريقية بالتالى كانت الفترة من 1967 حتى توقيع اتفاقية كامب ديفيد دليل بارز على الأهمية الإستراتيجية لأفريقيا وأنه لا يمكن إهمال موقع وأولوية أفريقيا بالنسبة لمصر والعرب عموما.

فى الختام وللتدليل على أهمية نصر أكتوبر 1973 فى مسار العلاقات المصرية الأفريقية، لن يكون هناك أفضل من ملخص عن المفكر الكبير الدكتور جمال حمدان عن حرب أكتوبر وأفريقيا فى كتابه المهم « 6 أكتوبر فى الاستراتيجية العالمية» والذى ذهب فيه إلى «إن حرب أكتوبر مثلت انقلابا كاملا فى العلاقات الأفريقية العربية من جانب والعلاقات الأفريقية الإسرائيلية من جانب، وأن حرب أكتوبر حققت وحدة القارة الأفريقية كما لم تتحقق من قبل، وتلاحمت الوحدة العربية الأفريقية، مثلما لم تفعل قط. واختفت الصحراء كفاصل أو عازل سیاسى بين دول أفريقيا شمال وجنوب الصحراء. وأن أفريقيا وجدت فى نصر السادس من أكتوبر نصراً لها ولكل دول العالم الثالث، وبدت مصر من خلال هذا النصر فى نظر القارة وكأنها يابان أفريقيا كأول دولة أفريقية تهزم دولة أوروبية بيضاء».

الدرس الأبرز من موقف دول جنوب أفريقيا جنوب الصحراء من الصراع العربى الإسرائيلى عامة، ونكسة 1967، ثم نصر أكتوبر 1973 خاصة هو أن الدول فى توجهاتها وتحالفاتها تخضع فى النهاية لمصفوفة المصالح الوطنية للدولة؛ السياسية الخارجية لجمهورية يونيو الجديدة ما بعد 2014 عززت المصالح المصرية الوطنية، وهو ما تم ترجمته فى سياسية خارجية مستقلة عقلانية تتسم بالرشد فى أجواء مشابهة لما كان عليه العالم فى حقبة الحرب الباردة. كذلك وضع القارة الأفريقية على رأس دوائر السياسة الخارجية المصرية إنما يعكس رؤية استراتيجية مصرية لأهمية القارة السمراء.