رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

أوراق مسافرة

 

 

قبل أربعة عقود تقريبًا، ارتدى الرجل نظارة شمس سوداء رغم الليل، وطاقية حمراء من الصوف رغم الحر، وجلس وكيل أول الوزارة -فى تناقض اجتماعى مفضوح رغم التنكر- خلف الراقصة فى الملهى يعزف آلة القانون، لم يكن الدافع عشقه للفن لينكر حقيقة شخصيته التى عليها فى النهار ويخلع هويته ويرتدى وجهًا آخر فى تلك الليالى بين كئوس السكارى، بل كان دافعه الحقيقى البحث عن مدد لزرقه ليوفى بنفقات أسرته وأولاده، يزوج ابنته الكبرى، يوفر مصاريف الدراسة للأخرى التى تدرس الطب، وهكذا، لأن راتبه من الوزارة لا يسعفه لتغطية متطلبات الحياة الطبيعية البسيطة، ولأنه أيضًا كان رجلًا كحد السيف لا يستغل منصبه، لا يبيع ضميره، لا يقبل رشاوى كغيره من بعض زملاء العمل وأصحاب المراكز والنفوذ.

هكذا قدم الفنان القدير الراحل محمود مرسى شخصية «طلعت» بجدارة فى فيلم حد السيف قبل 38 عامًا، ليطلق وحيد حامد كاتب الفيلم صافرة إنذار لإعادة النظر فى رواتب تلك الكوادر الممسكة بزمام أمور البلد من أصحاب المناصب والمراكز، أو من تعمل فى مؤسسات لها تأثيرها المجتمعى الكبير، لأجل أن يعيش هؤلاء حياة كريمة لا يضطر معها كثيرون إلى بيع ضمائرهم، وآخرون إلى بيع الوظيفة نفسها واستبدالها بأخرى متدنية لمجرد أن دخلها أكبر، ولتذهب المراكز إلى الجحيم، وهذا ما فعله محمود مرسى فى الفيلم تمامًا، قدم استقالته للوزارة، وقرر مواصلة باقى عمره يعزف آلة القانون خلف راقصة، حتى آلة القانون نفسها كان لها مغزى فى اختيارها، فبدلاً من أن يلعب بالقانون ويستغله لصالحه، اختار أن يلعب على آلة القانون، واسم الفيلم نفسه، لم يقصد به الكاتب فقط البطل الذى كان كحد السيف فى عمله، بل قصد أيضاً أنه سيواصل حياته فوق حد سيف قد يمزقه فى لحظة برفض المجتمع واستنكاره لتصرفه، وكان السيناريست رحيمًا بالبطل، فجعل أسرته تتعاطف معه بعد رفض، وتؤيده بعد استنكار، فى تصورى الواقعى ليس لقناعتهم بفنه، بقدر قناعتهم بما سيحمله اليهم من مال سيوفر لهم الحياة التى يحلمون بها.

بغض النظر عن أحكام الحرام والحلال من كسب مال من عزف موسيقى تتلوى عليها راقصة أمام السكارى، لأن الفيلم أسقط التعرض لتلك النقطة، وجعل من محمود مرسى بطلًا تحدى المجتمع من اجل لقمة العيش لأولاده، ولكن فى النهاية هو رجل قبل التنازل عن المركز والوظيفة و«الأبهة» لأجل الحصول على مال أكثر رأى من وجهة نظره انه حلال وافضل من الرشوة واستغلال النفوذ، فهل تنبهت الحكومات المتتالية فى بلدنا إلى رسالة هذا الفيلم، أم انه مر مرور الكرام مثل غيره من الأفلام الهادفة التى تحذر من المنزلقات الخطيرة التى ينحدر إليها مجتمعنا كل يوم عن الأخر بسبب الفقر وضيق ذات اليد.

المغزى أن القصة قديمة، متكررة فى مجتمعنا، أبطالها أناس فى مراكز ما ووظائف راقية ومهمة، رفضوا بيع ضمائرهم، ولجأوا إلى مهن وحرف إضافية سرًا أو علانية يراها المجتمع متواضعة، فكم مرة استقل احدنا سيارة أجرة ليخبرنا سائقها بأنه مدير فى مؤسسة ما أو موظف على درجة عالية، لكنه يضطر للعمل كسائق ليوفر لأسرته ما يحتاجون إليه، وكم من مرة رأينا عاملًا فى بنزينة هو فى الأصل مهندس أو طبيب أو موظف رفيع المستوى، لكن مضطر لهذا العمل الإضافى بسبب ظروف الحياة التى باتت طاحنة للجميع باستثناء فئة المليونيرات وما فوقها، كم من مرة استدعينا سباكًا، نجارًا، كهربائيا، ليخبرنا بأن هذا العمل إضافى بجانب وظيفته الأصلية.

فلماذا قامت الدنيا ولم تقعد بسبب مدير المدرسة سليمان محمد عبدالحميد 55 سنة بقرية صفط فى المنيا لأنه يعمل فى البناء بجانب وظيفته للوفاء باحتياجات أسرته؟ هل لأنه توفى أثناء عمله.. أم لماذا؟.. للحديث بقية.

[email protected]