رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

 

 

أشرنا فى مقالنا السابق إلى أن بعض الأسباب التى أدت إلى تعثر مسيرة مشروع التنوير الغربى. ولا يعنى هذا النقد بأية حال نهاية مشروع التنوير، بل إن أهم خصائص التنوير هو قدرة العقل على نقد ذاته ومراجعة أطروحاته، وهذا ما قام به فلاسفة التنوير أنفسهم، خاصة جان جاك روسو الذى قدم نقدًا حادًا لمشروع التنوير، والذى كان على العكس من رفاقه من فلاسفة التنوير لا يرى فى مسيرة التاريخ ما يوحى بأى تقدم أو تحسن فى أحوال البشر ففى مقاليه: «فى الآداب والفنون والعلوم»، وفى دراسته عن «أصل اللامساواة بين البشر» أدرك روسو الطابع التناقضى للحضارة، فالتقدم قـد يـواكـبـه نـوع من الانحطاط، والفتوحات التى تحرزها الحضارة قد تقترن بلا مساواة متنامية بين البشر، ويميل روسو إلى بيان عدم التناغم بين النتائج المرجوة وبين الأهداف الأولية التى كان المجتمع يسعى إليها، ويستشهد على ذلك بتحولات السلطة التى توجدها الشعوب من أجل ضمان حريتها وأمنها والتى تتحول ربما بفعل ضرورة داخلية إلى قوة مضطهدة وقمعية للشعوب نفسها.

ويذهب روسو المتشائم الرومانسى إلى أن البشرية قد خطت أول خطواتها نحو الانحطاط والتدهور مع ظهور الملكية العقارية التى كانت سببًا مباشرًا فى طرد الإنسان من فردوسه الأرضى وألقت به فى عالم الجحيم، عالم المجتمع المدنى، أو كما يقول روسو: «أول، من سيج أرضا وقال هذا ملك لى، ووجد أناسًا سذجًا بما فيه الكفاية ليصدقوا قوله هو المؤسس الحقيقى للمجتمع المدنى، وكم من جرائم وحروب واغتيالات، ومصائب، وفظائع كان سيوفرها على الجنس البشرى ذلك الذى كان سيقدم على نزع الأوتاد... صارخًا فى وجه أقرانه بقوله: حذار من الإصغاء لهذا المحتال، فلسوف يكون مآلكم إلى هلاك إذا نسيتم أن الثمار للجميع وأن الأرض ليست لأحد».

وقد تلا تلك الخطوة الأولى للانحطاط خطوات أخرى كانت سببًا فى المزيد من التعاسة للإنسان، فمع ظهور مبدأ تقسيم العمل، ظهر التفاوت والتمايز بين البشر، وبالتالى ظهر لأول مرة فى التاريخ جدل العبد والسيد. وترتب على ذلك صياغة بعض القوانين والشرائع التى تنظم العلاقة بين السادة والعبيد، وتقوم بحماية السادة من بطش أو ثورة العبيد، وتلا ذلك ولادة الدولة، وأخيرًا ظهور الفنون والآداب والعلوم والاختراعات المختلفة التى تقوم بدور المسكنات أو المخدر لعذابات البشر. باختصار فإن التقدم الذى كان منوطًا به الارتقاء بالإنسان إلى أقصى حد، لم يمنح الإنسان أى قدر من السعادة، بل على العكس أدى إلى تعاسة الإنسان وانحداره إلى أدنى مستويات البربرية الإنسانية.

الواقع أن روسو كما يوضح «بيورى» لـم يهدف من وراء نقده للحضارة إلى الدعوة لتدمير المكتبات وشتى الأعمال الفنية فى العالم، أو إلى إعدام العلماء وإخراسهم، أو الخلاص من المدن وإحراق السفن. لم يكن هذا هو هدف روسو بكل تأكيد، ولكنه قد اهتدى إلى أن الحل أو الخلاص من لعنة الحضارة، ومن خطايا التمييز الطبقى والتفرقة السياسية لن يأتى إلا من خلال الفعل الإنسانى نفسه، وتحرير الإنسان من عبوديته، وهذا ما يدعو إليه فى كتابه «العقد الاجتماعى»، فالعقد الاجتماعى هو ميثاق أساسى يحقق المساواة السياسية والشرعية بين الناس ويوفر لهم أكبر قدر ممكن من الحرية.

إن رسو برغم كفره بديانة التقدم، إلا أنه لم يفقد إيمانه بالإنسان وظل يحمل بأعماقه إيمانًا لا يتزعزع بحرية الإنسان، وقدرته الدائمة على تـحـطـيـم أغلاله وكسر قـيـوده وصون حريته من الضياع والفقدان، وها هو يعلن فى مستهل «العقد الاجتماعى»: «إن تخلى المرء عن حريته هو تخلٍ عن صفته كإنسان، عن حقوقه فى الإنسانية بل عن واجـبـاتـه... إذ إن تنازلًا كهذا مناف لطبيعة الإنسان، وانتزاع كل حرية من إرادته هو انتزاع كل أخلاقية من أفعاله».

وللحديث بقية...